بشكل مفاجئ؛ تعرّضت الاقتصادات المتصلةبمنطقة الشرق الأوسط لاثنين من التحديات المالية، وظهر التحدي الأول مع بداية شهر أغسطس حين قررت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرض مجموعة جديدة من العقوبات على إيران، وبعدها بأيام؛ بدأت الليرة التركية في الانخفاض بشكل كبير، وكان ذلك نتيجة قيام الولايات المتحدة بفرض رسوم جمركية جديدة على البضائع التركية، وبالنظر لهذين التطورين؛ فإن تلك الضربة المزدوجة ستؤثِر على المجتمعات والاقتصادات والسياسات الخارجية لدول الشرق الاوسط، حتى أن تلك التبعات ستطال دولاً من خارج الشرق الأوسط.

وقد وصفت حكومات تلك الدول انما يحدث مع كل منهما بالحرب، حتى أن محللاً تركياً قال أن الدولار الأمريكي بات سلاحاً موجهاً لليرة التركية، وفي إيران؛ هناك شعور عام بأن الولايات المتحدة تشن حرباً اقتصادية على البلاد.

والواقع أن التأثير الجوهريلتلك العقوبات ستشعر به إيران نفسها بطبيعة الحال، حيث أن البلاد تشهد بالأساس اضطرابات اجتماعية بسبب رفع الأسعار والضغوط على القيادة الإيرانية التي تعُد السبب الحقيقي لإعادة فرض العقوبات.

لكن تلك التحديات المالية ستشعر بها المنطقة بالكامل أيضاً، حيث تؤثِر على السياسة الخارجية والتحالفات.

وقد بات العراق ممزقاً بين الدولة الجارة (إيران) والدولة التي قامت بغزو العراق أولاً ثم ساندت عملية إعادة الإعمار به (الولايات المتحدة)، وبات موقف العراق على وجه الخصوص صعباً للغاية، وقد قال حيدر العبادي الذي استمر في تولّي الحكومة الجديدة أنه لا يوافق على العقوبات المفروضة على إيران لكنه مُجبر على الالتزام بها ولو بشكل جزئي، وقد تساءل العبادي ببلاغة خلال مؤتمر صحفي قائلاً: “بصفتي رئيساً للوزراء في العراق؛ هل يمكن لي تعريض مصالح البلاد للخطر من أجل الوقوف موقف معين؟”.

وقد رأت الأحزاب السياسية المُنافِسة أن الفرصة باتت سانحة للهجوم على العبادي، ولم يحدث هذا فقط بسبب قُرب بعض تلك الأحزاب من طهران، بل لأن أفراد الشعب العراقي يتذكرون الآثار المُدمِرّة للعقوبات التي قامت الولايات المتحدة بفرضها على العراق في تسعينات القرن الماضي، وقد بات العبادي مُجبراً على اتخاذ موقف محايد، لكن إعادة فرض العقوبات على طهران من المؤكّد أنه سيؤدي إلى إضعاف موقف رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي.

ولكن إذا ما بات العراق ضعيفاً فإن بعض دول الخليج ستصبح أكثر قوة.

والحقيقة أن الدول التي تشتري النفط الخام من طهران يجب أن تتوقّف عن ذلك بحلول شهر نوفمبر، وأسعار النفط تشهد ارتفاعاً تاريخياً، والواقع أن إيران (ثالث أكبر مُنتِج للنفط بمنظمة أوبك) إذا ما قررت وقف إنتاجها من النفط فمن المُتوقع أن تتدخّل كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة من أجل سد هذا الفراغ، مما سيؤدي إلى ضخ ملايين إضافية لخزانتي الدولتين، والواقع أن المملكة العربية السعودية على وجه الخصوص تشعر بالحاجة لتلك العائدات الإضافية، حيث أن هناك عدد من المتطلبات الهامة في مجال الاستثمار كي تنجح المملكة في إعادة التوازن للاقتصاد السعودي.

والواقع أن أي تغيير ستشهده أسواق النفط ستكون له آثاراً سياسية تتخطّى حدود تلك الأسواق، والغالبية العُظمى من صادرات النفط الإيرانية تذهب إلى دول آسيوية (الصين والهند وكوريا الجنوبية)، والواقع أن تلك الدول تستورد النفط من إيران بقيمة أكبر من واردات الدول الأوربية الكبرى من النفط الإيراني، وقد أدّى هذا إلى تحول في التوازنات السياسية، حيث باتت دول الاتحاد الأوربي تملك نفوذاً ضعيفاً تجاه إيران، والواقع أن فرض مجموعة جديدة من العقوبات القاسية يعني تناقُص النفوذ السياسي لتلك الدول في المستقبل.

وليس من الواضح بعد ما إذا كانت تلك التحولات ستؤدي إلى تغيير سياسي بشكل فوري، والواقع أن التغيير الرئيسي الذي تأمل فيه واشنطن وحلفائها العرب هو إنهاء التدخُل الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، ومن الممكن للعقوبات أن تعمل على ترسيخ المجهودات الإيرانية في بعض الدول، كما يمكن لها أن تؤدي إلى تقويض تلك المجهودات الإيرانية في دول أخرى.

وربما تقوم إيران بتقليل دعمها لمتمردي الحوثي في اليمن، لكن العلاقات مع العراق ولبنان تعُد بالنسبة لطهران أمراً غير قابل للتفاوض، وستشعر إيران بالفشلفي سوريا تحديداً بسبب إعادة فرض العقوبات على طهران.

وبينما تزيد حالة الضعف التي يعاني منها الاقتصاد الإيراني، فإن طهران سترى سوريا أكثر مما مضى على أنها ركناً جوهرياً لتحقيق الأهداف الجيوسياسية الإيرانية، وفي غياب اقتصاد إيراني قوي، فقد باتت مسألة إقامة طهران جسراً برياً إلى البحر المتوسط يمر عبر العراق وسوريا ولبنان مسألة حياة أو موت بالنسبة لإيران، والواقع أن العقوبات ستؤثِر على كم الأموال التي يمكن لطهران إنفاقها، لكن تلك العقوبات لن تغير من الفرضية الإيرانية التي ترى أن الحفاظ على النفوذ الإيراني في سوريا هو من الأمور الأساسية.

ونفس الأمر ينطبق على أزمة الليرة التركية، والتي لا تزال التبعات الخاصة بها مستمرة، والواقع أن تدخُل قطر التي تعهّدت بتقديم 15 مليار دولار لأنقرة، وكذا مساندة بعض القادة الأوروبيين لتركيا أدى إلى تعافي الليرة التركية، مما أسفر بالتبعية عن استغناء أنقرة عن الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، وهذا الأمر يتسم بالأهمية، لأن قيام أنقرة بالبحث عن دعم مالي باللجوء لصندوق النقد سيؤدي إلى انتشار الغضب بين أنصار التيار القومي المؤيد لأردوغان، وبدون اللجوء إلى صندوق النقد أو الحصول على دعم خارجي فإن ضعف الليرة التركية سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار.

وفيما يتعلّق بسوريا فإن التقديرات التركية تشبه نظيرتها الإيرانية، وقد بات بسط النفوذ التركي على الحدود لكبح جماح الجماعات الكردية من صميم الأمن القومي بالنسبة لأنقرة، وبغضّ النظر عن التحديات الاقتصادية فإن أنقرة لن تترك الحدود للجماعات الكردية.

وتلك الأزمة المزدوجة ستؤدي إلى ترسيخ الوجود التركي والإيراني على الأراضي السورية، ولن تؤدي إلى إضعاف وجود الدولتين في سوريا.

وهذا بالطبع مع عدم الأخذ في الحسبان ما يمكن أن يحدث أبعد من ذلك، والواقع أن النتيجة الأساسية لهاتين الأزمتين ستتمثّل في أن الدولتين الغير عربيتين (تركيا وإيران) ستخرجان من فلك “المحور الغربي”، ومن ثم ستتجه الدولتان إلى روسيا والصين.

وبالطبع فإن تلك الأزمات ألقت الضوء على الترابُط بين الشرق الأوسط وآسيا، حتى أن الهند التي تربطها علاقات قوية مع إيران تسعى للحصول على إعفاءات من إدارة دونالد ترامب، وكذا فإن الهند تسعى لأن تتبنّى موقفاً محايداتماماً مثل العراق، ولقد تأثّرت الهند أيضاً بالأزمة التركية، حيث أسفرت تلك الأزمة عن هبوط الروبية الهندية بنسبة 1.5% خلال الأسبوع الماضي، وهو يعُد من أسوأ الأيام التي شهدت فيها الروبية الهندية انخفاضاً خلال يوم واحد.

والحقيقة أن هناك صلة وثيقة بين السياسة والاقتصاد على مستوى دول المنطقة وحلفائها المقربين، بحيث بات ما يحدث في منطقة ما يلقي بظلاله على مناطق أخرى، ووفقاً للمنظور الاقتصادي فإن تلك العملية يُطلق عليها “المرض المُعدي”، حيث أن ضعف عملة دولة ما يكون له تأثير ضخم في مناطق أخرى، والحقيقة أن المرض المُعدي الخاص بكل من الأزمة المالية التركية والعقوبات الإيرانية سيكون له تبعات سياسية فضلاً عن التبعات الاقتصادية، فالتغيُر الذي يطرأ على قيمة الليرة والريال سيؤدي إلى تغيُرات سريعة في التحالفات السياسية أيضاً.

AFP PHOTO/ATTA KENARE

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: