بات اندلاع حرب شاملة بين الولايات المتحدة وإيران هو السيناريو الأقرب للتحقُق بعد إقدام واشنطن على اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني، وخلص الكثير من المحللين إلى أن تلك العلاقة المشحونة بين واشنطن وطهران قد انتقلت من حرب الظل إلى مرحلة التصعيد، وأن الأمر من الممكن أن ينتهي إلى مواجهة عسكرية مفتوحة بين القوات الأمريكية في الشرق الأوسط وبين إيران، وقد أعرب القادة الإيرانيين في الأساس أن اغتيال سليماني يعُد عمل من أعمال الحرب، وعلى الرغم من تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب التي قال فيها إن تلك الضربة الاستباقية كانت عملًا دفاعيًا لإحباط هجمات إيرانية جديدة على المنشآت الأمريكية في العراق وما وراءه، إلا أن الموقف شهد توتُرًا متصاعدًا، كما أنه يجب علي المسؤولين العسكريين والمدنيين في كلا الجانبين الاستعداد للخطوة التالية التي ستأتي من إيران كرد على هذا الهجوم.
ومن يقف في المنتصف من هذا الصراع هو دولة العراق التي تعاني ضعفًا على نحو متزايد.
والعراق يعاني مأزقًا شديدًا أكثر من أي مكان آخر يشهد حربًا بالوكالة بين واشنطن وطهران مثل لبنان أو سوريا، والعراق سيتحمل الكثير من العواقب الخطيرة بسبب الولايات المتحدة. ومن أصل جميع دول الشرق الأوسط فإن الوضع في العراق اليوم يعُد نتاجًا للسياسات الحالية التي تعمل بها الولايات المتحدة، منذ التدخُل العدواني الذي حدث في عهد جورج بوش وما له من نتائج مدمرة طالت استقرار العراق، إلى حالة الإهمال التي لقيها العراق على يد كل من إدارتي باراك أوباما ودونالد ترمب. والولايات المتحدة تتحمل مسؤولية كبرى عن استقلال العراق واستقراره ووحدة أراضيه أكثر مما تتحمل تلك المسؤولية أية دولة أخرى في الشرق الأوسط، لكن على مدار السنوات القليلة الماضية، فإن التركيز على إيران جعل من العراق قضية ثانوية بالنسبة للساسة في واشنطن، واغتيال سليماني جعل تلك الآثار المدمرة تنتقل إلى البيت الأمريكي.
أولًا كانت هناك إهانة شديدة طالت السيادة العراقية، و في جميع الأحوال، فإن العراق لم يكن طرفًا في الاستعدادات الأمريكية، لذا فإن العراق قد صُدِم شأنه شأن باقي دول العالم، حين أقدمت الولايات المتحدة على اغتيال القائد الإيراني إلى جانب القائد العسكري العراقي أبو مهدي المهندس، تلك الاغتيالات التي تمت على أرض العراق. وربما إذا خلص أي تحليل إلى أن رجال الأمن الوطني العراقي كانوا على علم بما حدث سيجعل الأمور أسوأ بالنسبة للعراق، لكن الهجوم الأمريكي كان بمثابة ضربة قاصمة للتعاون العسكري والاستخباراتي الذي يعُد بمثابة نقطة محورية في العلاقات الثنائية بين واشنطن وبغداد. وإحقاقًا للحق، فقد عمد الإيرانيون إلى الاعتداء على سيادة العراق طوال الوقت، لكن الآن فإن الجهود الأمريكية لحمل العراق على أن ينأى بنفسه عن طهران باتت محل نقاش.
والرئيس العراقي برهم صالح، الذي نجح بمهارة في إدارة العلاقات القوية التي تربط بين العراق وكل من الولايات المتحدة وإيران منذ انتخابه في عام 2018، لم يذكر الولايات المتحدة صراحة في تصريحاته التي أدلى بها في الثالث من يناير، وقد دعا برهم صالح إلى ضبط النفس قائلًا “إن هذا الهجوم بلا شك ستكون له نتائج سلبية على أمن واستقرار العراق والمنطقة بالكامل، ولو لم يقم العقلاء بأخذ زمام المبادرة وتقديم حل عقلاني، لن تكون هناك جدوى من أية محاولات قادمة لاحتواء آثار هذا العدوان، الذي من الممكن أن يقوٌض جهود إحلال السلام في العراق والمنطقة”.
وثانيًا، فإن هذا الهجوم قد فاقم من حالة التخبط التي تعانيها السلطة السياسية داخل مؤسسات الحكومة العراقية، وقد كانت هناك دعوات لتنحّي كل من رئيس الوزراء والرئيس العراقي، خلال المظاهرات الحاشدة التي كانت أغلبها سلمية على مدار الشهرين الماضيين، وقد عرض كل من الرئيس العراقي ورئيس الوزراء تقديم استقالته إذا ما كانت تلك الخطوة تخدم استقرار العراق، ويعتقد الكثير أن تنحّي هؤلاء سيؤدي إلى زيادة حالة الفوضى وانهيار النظام السياسي الذي تم تشكيله ببطء على مدار الأعوام الخمسة عشر السابقة.
وثالثًا، أدّى الهجوم إلى ظهور دعوات بسحب القوات الأمريكية بالكامل من العراق، وهذا الحل من الممكن أن يؤدي إلى إعادة الأحداث التي شهدها العراق بعد رحيل القوات الأمريكية في عام 2011، بعد انتهاء أجل الاتفاقية التي تم إبرامها مع إدارة الرئيس الأمريكي بوش.
وقد عادت القوات الأمريكية إلى العراق بعدها بثلاث سنوات، وذلك حين ظهر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وبات التنظيم يمثل تهديدًا وجوديًا لدولة العراق، وطلب العراق الدعم بصورة رسمية من كل من الولايات المتحدة وإيران. والآن لو قام البرلمان العراقي بالتصويت على إنهاء الوجود الأمريكي في البلاد كما هو متوقع، فإن إيران ستقوم بسد هذا الفراغ، وبينما يعتقد أو يأمل البعض أن موت سليماني سيؤدي إلى تخفيف قبضة إيران حول العراق، سيكون من السذاجة أن نعتقد أن ذلك سيؤدي إلى وقف الروابط الخاصة بدمج البنية التحتية وبناء الجسور الثقافية والدينية والشبكات السياسية بين كل من العراق وإيران.
وعلى أي حال فإن المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران باتت مصيرًا محتومًا، سواء أتت تلك المواجهة عبر وسائل عديدة غير متماثلة، أو أتت في شكل حرب تقليدية ستؤدي إلى إضعاف إيران كما ستؤدي إلى إشعال المنطقة. والواقع أن ترك العراق ليصبح دولة هشة وفاشلة سيكون بمثابة خطأ استراتيجيًا فادحًا ترتكبه الولايات المتحدة، والعراق لا يزال بإمكانه لعب دور الجدار العازل بين إيران والعالم العربي السني، كما أن العلاقات بين العراق ودول الخليج قد تحسنت إلى حد ما.
إن الاستخفاف بالسيادة العراقية وعجز قادة العراق الواضح في مواجهة الاضطرابات الداخلية التي تحركها أطراف مختلفة داخل المجتمع، والانهيار المحتمل للتعاون السياسي والأمني بين الولايات المتحدة والعراق، كل تلك العوامل ستجعل من هذا الهجوم بمثابة انتصار كاسح لإيران، كما ستجعله بمثابة انتكاسة خطيرة لمصالح الولايات المتحدة في العراق والمنطقة.
إلين لايبسون عملت سابقًا كنائب لرئيس مجلس الاستخبارات القومي الأمريكي، وهي تعمل حاليًا مديرًا لبرنامج الأمن الدولي بكلية شار للسياسة والحكومة بجامعة جورج ماسون في فرجينيا، وقد شغلت سابقًا منصب الرئيس والمدير التنفيذي لمركز ستيمسون في واشنطن، وقبل ذلك قضت لايبسون 25 عامًا في العمل الحكومي.