نعتقد أن التطور أو التأقلم التدريجي للسمات البدنية والسلوكية هو عمل يمضي ببطء شديد على مدار مئات بل آلاف السنون لمواجهة الدوافع البيئية. فالأسود بأنيابها القصيرة تسعى جاهدة لاقتناص عدد كافٍ من الفرائس لإطعام أنفسها وأشبالها، ولكن في نهاية الأمر، تلاشت جينات تلك الأسود ذات الاسنان القصيرة، التي لا تساعد على العيش، من مجمع الجينات مما أدى إلى سيطرة الأسود ذات الأنياب الطويلة على غابات السافانا. وفي حقيقة الأمر، وفي العام 1859، أشار “تشارلز داروين” إلى التنوع “المذهل” في السلالات المنحدرة من جنس واحد من الحمام، وحدد نوعين من التغيرات التطورية – أحدهما بطيء وتدريجي والآخر سريع وملفت للنظر. وأطلق على النوع الأخير من التغير “المسوخ”، وهو تحول كبير في بينة الطائر من جهة، بغض النظر عن كون هذا التحول ضار بالطائر أو غير مفيد له،” ويمكن إطلاق هذا المصطلح على تفشي ظاهرة قصر نظر الجنس البشري والتي تكتسح العالم في الوقت الراهن.
وبمرور الوقت، منحنا التطور نظرة مميزة للأمور، فبدون الإبصار الجيد، لن يتمكن المرء من اصطياد طعامه أو مراوغة من يسعى لافتراسه، وهذا يدل على أن المرء سيموت جوعًا أو يصبح وجبة لغيره، وبهذا تنتهي جيناته الوراثية. وتبقى ظاهرة “الانتقاء الطبيعي” هي العامل الحاسم، غير أن التغيرات الحالية في أسلوب الحياة تقضي بين عيشة وضحاها بفعل المعايير التطورية على حدة البصر الراسخة عبر عشرات الآلاف من السنين.
وعلى مدار الأعوام القليلة الماضية، أظهر أحد البحوث التي تحلل عقود من البيانات انتشار قصر النظر انتشارًا متزايدًا، وهي مشكلة لها عواقب عدة تتراوح من تكلفة الحاجة إلى النظارات أو العدسات اللاصقة والإزعاج الذي يعكر صفو أسلوب الحياة بسبب الحاجة إليها، وصولاً إلى مضاعفات قصر النظر على المدى البعيد والتي تزيد من مخاطر الإصابة بإعتام عدسة العين أو المياه الزرقاء بالإضافة إلى انفصال شبكية العين في مرحلة متقدمة من العمر.
ولخصت إحدى الأوراق البحثية المنشورة في جريدة طب العيون في العام 2016 والتي تستند إلى دراسة منهجية مؤلفة من “145” دراسة من جميع أنحاء العالم، أنه ما بين العام 2000 و2050 سيرتفع عدد الأشخاص المصابين بقصر النظر من 1,5 مليار إلى 5 مليار أي ما يزيد على 230% وهي زيادة صادمة.
ويعاني الآن حوالى نصف الشباب في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية من قصر النظر – أي ضعف العدد منذ 50 عامًا مضت. وتشهد دول شرق آسيا وضعًا أسوأ من ذلك، لأنها، وفقًا لأحد التقارير المنشورة في مجلة “الطبيعة”، سجلت زيادة غير مسبوقة في إصابة مواطنيها بقصر النظر، حيث يعاني “90%” من المراهقين والبالغين في دولة الصين من قصر النظر.
وليس من الضروري أن نتعمق كثيرًا للتعرف على أحد الأسباب التي من الممكن أن تؤدي إلى الإصابة بقصر النظر – لأن السبب قريب كقرب اليدين إلى صاحبها. وفي حقيقة الأمر، أصبح مشهد الأشخاص وهو يحملقون في الشاشات مشهدًا منتشرًا في جميع أنحاء العالم. وفي الوقت ذاته، ارتفع أيضًا متوسط عدد الساعات التي يستغرقها المرء في الدراسة أثناء طفولته ارتفاعًا كبيرًا في جميع أنحاء العالم.
ويعطي سوق الوظائف العالمي التنافسي في الوقت الحالي أهمية قصوى للتعليم في العديد من الدول ومنها الصين حيث يقضي الأطفال العديد من الساعات ملاصقين للكتب أو شاشات الكمبيوتر. ولا غرابة في أن تجد الأبحاث أن ثمة ارتباط مباشر بين قصر النظر ومستويات التحصيل التعليمي. وبمعنى آخر، هناك ثقة في الصورة النمطية القديمة لتحليل “سوات” (نقاط القوة والضعف والفرص والتهديدات) الجدير بالاحترام.
ورغم ذلك لا تزال الصورة غير مكتملة، فهناك أبحاث في الولايات الأمريكية وأستراليا وإسرائيل تشير إلى أن الكتب أو العمل على الشاشات قد لا تكون سببًا في إتلاف الرؤية لدى الأطفال، بينما يكمن السبب في قلة خروج الطالب إلى الهواء الطلق.
وثبت هذا الأمر لأول مرة في دراسة جرت بين شعب الاسكيمو في شمال ألاسكا، حيث تحول قصر النظر والذي لم يمكن موجودًا تقريبًا في أحد الأجيال إلى مرض يصيب طفل من كل طفلين بسبب قلة الوقت الذي يقضيه في الأنشطة التقليدية خارج المنزل كالصيد.
وأثبتت دراسة أخرى في أستراليا أن “المستويات المرتفعة لإجمالي الوقت المستغرق في الهواء الطلق ترتبط بقلة الإصابة بقصر النظر،” وهي النتيجة ذاتها التي أكدتها دارسة بريطانية في شهر يونيو في نفس العام. وفي هذا دليل دامغ على أن “قضاء وقت أطول في التعليم من العوامل العارضة التي تؤدي إلى خطر الإصابة بقصر النظر”، ولخصت الدارسة أيضًا إلى أن أفضل ما يوصى به في هذا الأمر وفقًا لأقوى الادلة المتاحة في ذلك الوقت هو أن يقضي الأطفال وقتًا أطول في البيئة الخارجية.
ويبدو أن العديد من الدراسات أكدت على تلك النصيحة، حيث وجدت تلك الدراسات أن انتشار قصر النظر أقل بكثير بين الأطفال في بعض دول الشرق الأوسط – وقد يعود السبب إلى قلة التركيز ولاسيما في المناطق الريفية النائية على التعليم المكثف. وفي إحدى الدراسات التي أُجريت على 400,000 ألف طالب عماني في العام 2003، تبين أن نسبة الإصابة بقصر النظر بين الطلاب هي “4,1%” فقط – وهي نسبة أقل بكثير من تلك الموجودة في دول شرق آسيا – وظهرت نسبة مماثلة في دولة “إيران”.
واثبت أحد الأبحاث في العاصمة عمان بالأردن أن انتشار نقص النظر كان “مرتبطًا ارتباطًا كبيرًا باستخدام الحاسب الآلي والقراءة والكتابة خارج المدرسة،” في حين أن ممارسة الرياضة قللت من مخاطر الإصابة بهذا المرض. وعلى النقيض، لخصت إحدى الدراسات المعنية بدراسة انتشار قصر النظر بين الأطفال في دول شرق آسيا والتي نشرتها جريدة “طب العيون” أن “الحضور لفترة طويلة في المدارس التأهيلية” هو أحد العوامل الرئيسة التي تزيد من مخاطر الإصابة بقصر النظر بين الأطفال الذين تتراوح أعمارهم من 7-12 عام.
ويبدو أن هناك دولة سجلت نتائج مختلفة في نسبة الإصابة بقصر النظر على مستوى العالم وهي النرويج لأنها تطبق افضل المعايير التعليمية. وتشير إحدى الأوراق البحثية المنشورة هذا الشهر في مجلة “الاتجاهات العلمية” إلى أن النتيجة التي حققتها دولة النرويج قد تعود إلى ان “البيئة الخارجية جزء من ثقافة النرويج وركيزة أساسية لنمو الأطفال.”
ويقضي طلاب رياض الأطفال في النرويج ساعتين يوميًا خارج الفصول في فصل الشتاء، وأربع “4” ساعات على الأقل في فصل الصيف، ويقضي طلاب المدرسة الابتدائية جميع فترات الراحة خارج الفصول – وهي نماذج دراسية “مختلفة كليًا عن مدارس شرق آسيا حيث يقضى الأطفال أوقات الراحة عادة داخل الفصل الدراسي.” وقد أشار أحد الأبحاث الذي جرى في “تايوان” إلى أنه من الضرورة بمكان أن يقضي الأطفال ساعتين على الأقل في الهواء الطلق لمنع ظهور قصر النظر.
ولم يتوصل أحد حتى الآن إلى الفائدة التي تعود على عين الإنسان من قضاء وقت أطول في الهواء الطلق ولاسيما خلال سنوات الطفولة التي تشهد نمو الطفل. ورغم ذلك تظل الرسالة واضحة، وهو أن الدافع التنافسي لتوفير أفضل تعليم ممكن لأطفالنا يجب أن يتوازن مع الحاجة إلى المحافظة على أبصارهم، وهو الدرس الذي قد يكون من الواجب أن نضعه نصب أعيننا في ظل سعى دول الشرق الأوسط لإعادة تقييم نظامها المدرسي استقبالاً للعام الجديد.
وبالنسبة للوالدين والمدارس وصناع القرار يدل هذا الدرس على ضرورة التأكد أن الأطفال يقضون وقتًا أطول في التحديق نحو الأفق والتفكير في مستقبلهم، وأي شيء خلاف ذلك سيؤدي إلى الإصابة بقصر النظر.
AFP PHOTO/Rebecca Conway