يُثار الكثير من الضجيج حول عملة البنك المركزي الرقمية أو “سي بي دي سي” CBDC، وفي العام الماضي أصبحت جزر البهاما أول بلد يصدر عملة رقمية عن طريق بنكه المركزي، وفي الأول من أكتوبر، كشف البنك المركزي النيجيري النقاب عن اي-نايرا e-Naira، وفي العام الماضي، بدأت الصين تجربة اليوان الرقمي في أربع مدن، بينما تعمل الولايات المتحدة وبريطانيا على برامج تجريبية، وإصدار أوراق بحثية توضح كيف يمكن عمل العملة الرقمية التي يصدرها بنكيهما المركزيين. ولا يزال الكثير من الناس ينظرون إلى الفكرة بنظرة الشك ويخطئون في اعتبارها شكلاً من أشكال العملة المشفرة، ولكن لا حاجة للتوجس منها فهي ليست كما يظنون.
والأمر الذي يثير التساؤل أذاً هو: ما هي عملة البنك المركزي الرقمية “سي بي دي سي” والجواب بكل بساطة هو إن “سي بي دي سي” تشبه النقود الموجودة في محفظتك، إلا أنها غير مطبوعة، أي غير ورقية، وهي بدلا من ذلك تُصدر إلكترونياً، مثلها مثل العملة الورقية. فلكل عملة رقمية صارده من البنوك المركزية (سي بي دي سي) رقم تسلسلي يمكن التعرف عليه، بعكس عملة البيتكوين والتي تشبه جرة من الذهب وبالتالي لا يمكن التعرف على ما تحويه. إن امتلاك بعض من عملات البيتكوين يشبه اكتناز بعض السبائك الذهبية، فمثل الذهب، يمكنك اقتطاع جزء من السبيكة لدفع بعض المال لشخص ما أو تجميع أجزاء من البيتكوين في “كتلة” من العملات المشفرة، أي أنها “قابل للصهر” بصورة لا متناهية، إذا جاز التعبير.
وقد تعترض قائلاً إن هذا لا يبدو مختلفًا تمامًا عن الدفع بالبطاقة الائتمانية، أو التحويلات المصرفية الإلكترونية. وفي حقيقة الأمر، الأمر مختلف كلياً، لإن الدفع من خلال البطاقة هي شكل من أشكال الشيكات: أو تعليمات لدفع الأموال من حسابك، يتم تمثيل هذه الأموال في النهاية بالنقد المادي الذي يطبعه البنك المركزي، وقد يتم تمثيلها رقميًا في حسابك، ولكن هناك مخزن لتلك الأموال المادية في مكان ما لدعمها. وفي كل مرة تستخدم فيها نظام الدفع الإلكتروني لدفع قيمة كوب القهوة، هناك وسطاء يطابقون دفعتك بحسابك المصرفي ثم يحولونها إلى ستاربكس. وأنت بحاجة إلى ماستركارد Mastercard أو فيزا Visa كوسيط، وهو الدور الذي تلعبه تلك الشركات نظير مقابل مالي.
ولتبسيط الأمر، فإن الدفع عن طريق عملة اليوان الرقمية في مدينة شنجن الصينية وهي (أحد المواقع التجريبية في الصين) لبعض الزلابيا الصينية يشبه صرف النقود من محفظتك مباشرة، حيث ينتقل المبلغ منك مباشرة إلى البائع، من دون وسطاء، تمامًا كما هو الحال مع العملات المشفرة، ولكن على عكس العملات المشفرة، فإن الهوية الفريدة لكل عملة رقمية للبنك المركزي تعني أنه من الممكن تتبع مسارها. كما يوجد سجل الكرتوني لكل معاملة، على عكس النقود الورقية التقليدية، وهذا يجعل من الصعب ممارسة غسل الأموال أو تمويل الأنشطة غير الشرعية.
ولكن على الرغم من كل ذلك، لايزال الكثير من الناس يشعرون بالقلق والخوف من أن “أموالهم الحقيقية” يتم استثمارها في هرم بونزي أو عملات مشفرة. ولا يزال معظم الناس لا يفهمون ما هو بلوكتشين، ولا يمكنهم فهم كيف تستطيع تلك التكنولوجيا خلق عملات البنك المركزي الرقمية “سي بي دي سي” والعملات المشفرة. وفي الواقع، كون إن عملات البنوك المركزية تعتمد على بلوكتشين تمامًا مثل العملات المشفرة فذلك يجعلها مباشرة عرضة للشبهات.
وتعد العملات المشفرة وعملة البنك المركزي الرقمية “سي بي دي سي” مصطلحات متماثلة في أذهان كثير من الناس. والمشكلة مع أحدها تؤثر على الأخرى، على سبيل المثال، لم تكلل تجربة اعتماد السلفادور لعملة البتكوين بالنجاح (تم تجريب البتكوين في سبتمبر بدل من تجريب عملة رقمية لبنكها المركزي) حيث كان هناك ارتباك وحيرة بين بعض السكان، وحذر المراقبون الدوليون من أن الدولة ستعزل نفسها عن الاقتصاد العالمي (وهذا مثل الخوف من العملات المشفرة) وتساءل الجمهور عن النيات الحقيقية لأولئك الذين يديرون البلاد.
وفي الواقع، حدثت المشكلة الحقيقية بعد أيام من اعتماد السلفادور لعملة البيتكوين، حيث تعرضت سلسلة بلوكتشين والعملات الرقيمة الجديدة والمثيرة سولانا لانقطاع لمدة 17 ساعة، وتعتبر سولانا بديلاً أكثر فاعلية لسلسلة بلوكتشين المشهورة مثل إيثريوم، وينظر إليها الكثير ممن يفهمون في هذه المسائل على أنها مستقبل العملة المشفرة. ولكنها تعطلت عن العمل لأكثر من يوم، مما دفع بالبعض إلى التساؤل عن مدى قوة تقنيتها والمخاوف من انتشارها إلى العملات المشفرة والعملات الرقمية البنكية الأخرى.
وقد نضيع في بحر من الأحداث الساخنة حول هذين الحدثين، وهو حقيقة يعتبرها معظمنا من المسلمات: ونحن في المراحل المبكرة جدًا من تقنية بلوكتشين والعملات المشفرة و عملة البنك المركزي الرقمية “سي بي دي سي”. ولا يُعد هذا حكمًا حول استخدام وفعالية بلوكتشين أو العملات المشفرة، بل إنه تذكير متواضع بأننا في الأيام الأولى لتكنولوجيا مبتكرة للغاية.
وفي الأيام الأولى للإنترنت، أصاب فيروس يسمى دودة موريس في عام 1988 ما يصل إلى 10 في المئة من أجهزة الكمبيوتر المتصلة بالإنترنت، وعلى الرغم من هذا الحدث المدمر، الذي أشار إليه المعارضون في ذلك الوقت باعتباره جانبًا سلبيًا محتملاً للإنترنت ككل، إلا إن الشبكة العنكبوتية تطورت بشكل ملحوظ. وبدلاً من رؤية تعطل سولانا كدليل على ضعف العملات المشفرة، فمن المفيد رؤية هذه التطورات كجزء طبيعي من التكنولوجيا الناشئة.
وهو ما يعيدنا إلى موضوع عملة البنك المركزي الرقمية “سي بي دي سي”، فلماذا نفكر فيها كخيار؟ مادام معظم الناس والبنوك سعداء بالمعاملات الرقمية وفق الخيارات المتوفرة؟ الجواب هو أن البنية التحتية المالية آخذة في التغير، وعمر النقود الورقية يعود لسلالة تانغ الصينية في القرن السابع، وعلى الرغم من إنها لم تنطلق حقًا حتى عهد أسرة سونغ في القرن الحادي عشر. لكن التكنولوجيا تسارعت في المئة عام الماضية لدرجة أنه يجب علينا إعادة تقييم هيكلة المجتمع، بما في ذلك التبادل المالي. وهناك حاجة ماسة للبقاء على اطلاع بالتحسينات والتطورات في عالم التكنولوجيا. إن العملات الرقمية تعمل بنجاح، وتقلل من الفساد، وهي سهلة الاستخدام ويسهل التحكم بها.
ولا تحتاج إلى تصديق كلماتي من دون حجة دامغة أو دليل، فهذا ما قاله صندوق النقد الدولي مرارًا وتكرارًا. في مقال نشره في يوليو على موقعه الإلكتروني، حيث قال: إنه لا ينبغي إغفال “مزايا التقنيات الأساسية للعملات الرقمية”، بما في ذلك إمكانية توفير خدمات مالية أرخص وأكثر شمولاً. ومع ذلك، تحتاج الحكومات إلى تكثيف تقديم هذه الخدمات والاستفادة من الأشكال الرقمية الجديدة للأموال مع الحفاظ على الاستقرار والكفاءة والمساواة والاستدامة البيئية. ”
إن الدافع والمحفز للبنوك المركزية الكبرى لتأسيس عملات رقمية هو البقاء على ارتباط واتصال بالمشهد التكنولوجي المتغير، ومع ذلك، فإن التحول إلى العملة الرقمية لن يحدث بين عشية وضحاها، وستكون هناك عقبات على طول الطريق. مثلما عانى الإنترنت من آلام متنامية كبيرة (ولا يزال يعاني)، فإن العملات الرقمية أمامها طريق طويل لتصبح ناضجة وتقف على قدميها، وهي ما زالت تعيش أيامها الأولى. ومع ذلك، فدلاً من حمل النقود في محفظتك، يجب أن تتوقع الدفع في المستقبل القريب مستخدماً ماسح قزحية العين أو بصمة الإبهام أو شكل الوجه.
جوزيف دانا، كبير المحررين في إكسبوتنشال فيو، وهي نشرة إخبارية أسبوعية عن التكنولوجيا وتأثيرها على المجتمع. وقد شغل سابقًا منصب رئيس تحرير “إمريج 85”، وهو مركز دراسات يستكشف التغيير في الأسواق الناشئة وتأثيره العالمي.