العلمانية تحتضر في كل من تركيا والهند، وعلى الرغم من الاختلافات الجيوسياسية فإن الدولتين تُعتبران اليوم على ذات المسار فيما يخص السياسة الداخلية، والفضل في هذا يعود إلى قائدي الدولتين رجب طيب أردوغان وناريندرا مودي، وكلا الرجلين الآن يسيطران على المساحة القومية بشكل تام مما يعجز معه أي معارض عن إظهار التحدي لهما فيما يخص تلك المسألة، وكما أظهرت الانتخابات الأخيرة في كل من اسطنبول ودلهي، فإن أي معارضة ستكون قادرة على الاستمرار والنجاح إذا ما ركّزت فقط على سوء الحكم لدى كل من القائدين فضلًا عن توفير رؤية اقتصادية بديلة أمام الناخبين.
وكل من حزب مودي “بهاراتيا جاناتا” وحزب أردوغان “العدالة والتنمية” يتعاملان مع العلمانية الرسمية على أنها أمر تم فرضه عليهما عبر النخبة السياسية التي قامت بتأسيسها دون النظر إلى الواقع الذي يعيشه الهنود والأتراك، ويرى أردوغان نفسه كمؤسِس الجمهورية الثانية – تركيا المجردة من العلمانية وفكرة الديمقراطية، وفيما يخص السياسة الخارجية فإن أردوغان يريد أن يعود بتركيا إلى أيام المجد التي عاشتها إبان الإمبراطورية العثمانية، كما يرى مودي نفسه أيضًا على أنه رائد الهند الحديثة، وقد أشار مودي في أحد خطاباته أمام البرلمان في العام 2014 إلى أن النصر الذي حققه في الانتخابات التي جرت خلال ذات العام كان بمثابة نهاية “1200 عام من العبودية”، وهذا لا يعني فقط أنه يتعامل مع البريطانيين على أنهم من الغزاة الأجانب لكنه يعني أن مودي يتعامل بالمثل مع جميع قدماء الحكام في الهند منذ القرن التاسع الميلادي، وما تم استيعابه بصورة ضمنية في خطاب مودي هو مفهوم مؤداه أن الرجل مثله في ذلك مثل أردوغان من الممكن أن يقود دولته تجاه إحياء العصر الذهبي المزعوم من ركام الماضي البعيد.
وخلال الفترة الحالية وبينما يعاني الاقتصاد في كل من الهند وتركيا من التراجُع، فقد لجأ كل من أردوغان ومودي إلى القومية الدينية من أجل دعم الموقف السياسي لكل منهما.
ويأتي قرار أردوغان في العاشر من يوليو بتحويل آيا صوفيا من متحف إلى مسجد كحلقة في سلسلة طويلة ترمي إلى القضاء على العلمانية الرسمية في تركيا، وقد كان مصطفى كمال أتاتورك مؤسِس تركيا الحديثة هو من قام بتحويل آيا صوفيا إلى متحف علماني في العام 1935 – وهو القرار الذي طالما استنكره أردوغان وحزبه واصفين إياه بأنه يمثل إهانة للمتدينين الأتراك قامت بها نخبة سياسية تفتقد الوعي، ويبدو أن أردوغان يميل إلى مقارنة نفسه بمحمد الفاتح القائد العثماني الذي قام بفتح اسطنبول والذي قام بتحويل آية صوفيا من كاتدرائية إلى مسجد في العام 1453، وقد سمح قرار آيا صوفيا للرئيس التركي بالحصول على الإجماع، أما الانتقاد الواسع الذي أعرب عنه الغرب لهذا القرار سيكون بمثابة طوق نجاة لأردوغان، لأن الرجل سيظهر الآن بمظهر المُدافِع عن سيادة تركيا.
وفي الهند وعدت حكومة مودي ببناء معبدًا ضخمًا باسم الإله الهندوسي رام في مسقط رأسه بمدينة أيوديا التي تقع شمالي البلاد، وقد كانت الأرض التي من المفترض بناء المعبد عليها تشتمل على مسجد تم بناءه في القرن السادس عشر، ومن قام ببناء المسجد هو بابر مؤسِس سلطنة مغول الهند التي حكمت أجزاء واسعة من البلاد منذ العام 1526 وحتى العام 1857، وهي الفترة التي تقع ضمن “1200 عام من العبودية” التي تحدّث عنها مودي، وقد قام المتطرفين الهندوس المرتبطين بحزب بهاراتيا جاناتا بتدمير المسجد في العام 1992، مما كان بمثابة أحد أسوأ أحداث العنف الطائفي التي شهدتها الهند.
وفي العام الماضي اعترفت المحكمة العليا الهندية بأن تدمير المسجد كان عملًا مخالفًا للقانون، ورغم ذلك منحت الأرض المتنازع عليها للهندوس “بدعوى أن” المكان هو مسقط رأس الإله رام، وقد أثار القرار حالة من السعادة بين أنصار حزب بهاراتيا جاناتا على وجه الخصوص، لأن بناء المعبد طالما كان يمثل حلمًا عزيزًا بالنسبة لهم، تمامًا كما كانت مسألة تحويل آيا صوفيا إلى مسجد مرة أخرى هدفًا لأردوغان من أجل السيطرة على قاعدة الناخبين، والواقع أنه منذ ثمانينات القرن الماضي فإن صعود حزب بهاراتيا جاناتا إلى السُلطة كان مرتكزًا على الوعد ببناء معبد رام – وهو الوعد الذي تكرر خلال جميع البيانات الرسمية على مدار الانتخابات المتعاقبة، وجاء قرار المحكمة بالتزامن مع تعديل قوانين المواطنة في الهند خلال العام الماضي، وسيسمح بناء المعبد لمودي بدعم مبدأ أن الهند دولة هندوسية مما سيؤدي إلى تدمير المؤسسة العلمانية في البلاد.
ومثل الهند فقد باتت العلمانية في تركيا قضية خاسرة، وقد لاقت القرارات الأخيرة المدفوعة بالقومية الدينية شعبية هائلة بين أغلبية الناخبين، وكي تحظى معارضة أيًا من أردوغان ومودي بالتأثير يجب ألا تأتي عبر الضجيج الذي ينادي بعودة العلمانية، لكنها ستأتي عبر هؤلاء الذين يستطيعون تسليط الضوء على عجز القيادة الحالية، فضلًا عن توفير رؤية بديلة تتمتع بالمصداقية فيما يتعلّق بالتنمية الاقتصادية.
وتلك العملية ربما تكون قد بدأت بالفعل، ففي العام 2019 تعرّض حزب أردوغان للهزيمة للمرة الثانية في الانتخابات الخاصة باختيار عمدة اسطنبول، فقد قام أكرم إمام أوغلو وهو سياسي معارض بالتركيز في حملته الانتخابية بشكل صريح على التنمية الاقتصادية وفساد حزب العدالة والتنمية.
وفي دلهي أيضًا فقد تعرّض حزب بهاراتيا جاناتا للهزيمة مرتين خلال المنافسة مع حزب حزب “آم آدمي” الصاعد، الذي نجح بمهارة في تنحية النقاشات الخاصة بالقومية والعلمانية جانبًا واختار التركيز على القضايا التي تمس معيشة المواطنين.
والواقع أن تركيا والهند ربما لا تستمران كديمقراطيات علمانية في المستقبل، وعلى الرغم من ذلك طالما استمرت الديمقراطية في الدولتين فمن المهم بالنسبة لرفاهية الأتراك والهنود أن تستمر الحكومات قيد المراقبة عبر معارضة قوية وفعالة.
يعمل دنيانيش كامات كمحلل سياسي ، وهو متخصص في منطقة الشرق الأوسط وجنوب آسيا ، كما يقدم استشارات للحكومات حول السياسات والمبادرات الاستراتيجية ، وتطوير الصناعات الإبداعية مثل الإعلام والترفيه والثقافة.