تواجه “هيئة تحرير الشام”، وهي إحدى الجماعات التابعة لتنظيم “القاعدة”، أكبر خسائرها في ساحات القتال منذ ظهورها بسوريا في أواخر سنة 2011. ففي ظرف أسبوع واحد، فقد هذا الفصيل المتمكن السيطرة على ما لا يقل عن 36 بلدة ومدينة ذات أهمية استراتيجية في شمال غرب سوريا. لكن الأهم من ذلك على الأرجح، هو أن سمعة هذه القوات كواحدة من أقوى جماعات الثوار في البلاد قد تضررت كثيراً.

وتعكس الخسائر التي تكبدتها مؤخراً “هيئة تحرير الشام”، والتي كانت تعرف في السابق باسم “جبهة النصرة”، الصعوبات التي تواجهها في إعادة تعريف نفسها، بما في ذلك صلاتها بالتيار الجهادي الدولي. ففي أوائل سنة 2017، اندمجت “جبهة النصرة” مع جماعات أخرى، بعضها يقاتل الجماعة الآن، بعد أن فكت في وقت سابق ارتباطها بتنظيم “القاعدة”. وفي ظل المشهد المعقد للحرب الأهلية السورية، حيث تشارك عشرات الفصائل التي غالباً ما تكون متعارضة، فإن اقتتال هذه الجماعات فيما بينها سيؤثر حتماً على مآل الصراع السوري برمته وعلى فرص استدامة أي سلم محتمل.

إن الهزائم التي تعرضت لها الجماعة في فبراير على يد “جبهة تحرير سوريا” الحديثة التكوين، قد قلبت موازين القوى. فرغم الهجمات المضادة التي شنتها “هيئة تحرير الشام” لاحقاً والتي مكنتها من استرجاع جزء من الأراضي التي فقدتها، عجزت الجماعة عن تحقيق نصر حاسم، علاوة على أنها كشفت عن هشاشتها العسكرية في صراعاتها مع باقي فصائل الثوار، كما أنه ما من شك أن الاقتتال بين هذه الفصائل قد أطال عمر الحرب وخدم مصالح النظام المدعوم من روسيا وإيران. فمنذ أواسط سنة 2014، هاجمت “هيئة تحرير الشام” بصورة متكررة باقي الفصائل المناهضة لنظام الأسد، بما فيها “جبهة ثوار سوريا” على وجه الخصوص، وهي تحالف من جماعات الثوار الناشطة في إدلب تحت مظلة “الجيش السوري الحر”، و”حركة حزم”، وهي تحالف في شمال غرب سوريا تحول فيما بعد إلى عدد من الجماعات، و”جيش المجاهدين”، وهو ائتلاف يضم فصائل إسلامية تشكل في أوائل سنة 2014 بالأساس لمحاربة “داعش” في شمال سوريا، و”أحرار الشام”، وهي الجماعة السلفية التي كانت تضم في السابق أعتى قوات الثوار في سوريا.

ورغم التفاوت الكبير بين خصومها من حيث الحجم والقدرات العسكرية، تمكنت “هيئة تحرير الشام” في السابق من تحقيق انتصارات خاطفة في ساحات القتال، كما أن استسلام جماعة “أحرار الشام” بشكل مفاجئ في النصف الثاني من سنة 2017، بعدما كانت تعتبر واحدة من أقوى فصائل الثوار في شمال سوريا، جعل “هيئة تحرير الشام” القوة المهيمنة في شمال غرب سوريا الخاضع لسيطرة الثوار.

لكن الانقسامات الداخلية والخرافة القائلة إن الجماعة باتت قوة لا تهزم كانتا سبباً في إسقاط “هيئة تحرير الشام”. فخلال معاركها في نوفمبر ضد “حركة نور الدين الزنكي”، وهي إحدى الجماعات التي انضمت إلى ائتلاف “هيئة تحرير الشام” و”جبهة النصرة” في وقت سابق من تلك السنة، عجزت الجماعة، التي كانت القوة المهيمنة آنذاك، عن هزم خصمها للمرة الأولى. فرغم تواضع قواتها وقدراتها العسكرية، نجحت “حركة نور الدين الزنكي” في التصدي لهجمات “هيئة تحرير الشام”. وبعد معارك دامت لمدة قصيرة، تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار تحت ضغط باقي جماعات الثوار والمدنيين الذي أصروا على أنه يجب توجيه موارد الجماعتين لمحاربة قوات النظام السوري. وهكذا تفاوض الطرفان على وقف إطلاق النار، غير أن فشل “هيئة تحرير الشام” في تعزيز سمعتها، جعل الأمر يبدو كهزيمة لها.

هذا الضرر الذي لحق بسمعة الجماعة كان على ما يبدو من العوامل التي أدت إلى استئناف المعارك، حيث سعت “هيئة تحرير الشام” إلى إصلاح صورتها من خلال إنهاء ما بدأته. وهكذا عاودت الجماعة الهجوم على “حركة نور الدين الزنكي” في 20 فبراير بعد إعلان تشكيل “جبهة تحرير سوريا” باندماج “أحرار الشام” و”حركة نور الدين الزنكي”، وهو ما اعتبرته قيادات “هيئة تحرير الشام” تهديداً استراتيجياً حقيقياً.

لكن بدلاً من إعادة فرض سيادتها، تعرضت “هيئة تحرير الشام” خلال المعارك التي خاضتها مؤخراً لأفدح خسائرها في ساحات القتال. حيث تمكنت “جبهة تحرير سوريا” من إخراج “هيئة تحرير الشام” من عشرات البلدات والمواقع العسكرية ذات الأهمية الاستراتيجية في منطقتي غرب حلب وإدلب التابعتين للمعارضة. وقد أفادت مصادر في الميدان بأن الإصابات في صفوف “هيئة تحرير الشام” قد بلغت خمسة أضعاف الإصابات لدى قوات “جبهة تحرير سوريا”. وما يزيد من الشعور بالإهانة هو أن سيطرة “جبهة تحرير سوريا” على أراض كانت تابعة في السابق لـ” هيئة تحرير الشام” قد دفع الجماعة إلى طلب المساعدة من “الحزب الإسلامي التركستاني”، وهو جماعة جهادية أويغورية تسعى إلى إقامة دولة مستقلة في منطقة شينجيانغ بالصين وتملك بدورها قوات في سوريا. هذا التراجع قد أضر كذلك بمكانة “هيئة تحرير الشام”.

لكن إذا قمنا بتحليل أعمق، نجد أن الهزيمة الصارخة لـ”هيئة تحرير الشام” راجعة بالأساس إلى الضعف الداخلي للجماعة وحساباتها الاستراتيجية الخاطئة، أكثر مما هي ناجمة عن قوة خصومها. فمنذ التحول الذي طرأ عليها، عانت الجماعة من التنافس الأيديولوجي الوجودي بين جناحيها البراغماتي والمتشدد، حيث يسعى الطرف الأول إلى تحويل الحركة إلى جماعة إسلامية مقبولة سياسياً من خلال قطع روابطها بتنظيم “القاعدة” والظهور بمظهر الفاعل السوري المحلي.

لكن بعدما قام قادة الجماعة بفك الارتباط بتنظيم “القاعدة” في 2016، حدثت سلسلة من الانشقاقات بين صفوف الفصائل المتشددة، بما فيها “جيش البادية” و”جيش الملاحم”، وهما الجماعتان اللتان مازالتا تنشران دعاية “القاعدة”. كما أن أعضاء بارزين في المجلس الاستشاري للائتلاف، بمن فيهم أبو جليبيب طوباس، وأبو خديجة الأردني، وسامي العريدي، وأبو عبد الرحمن المكي قد انشقوا عن الجماعة وأسسوا مؤخراً تشكيلاً عسكرياً جديداً موالياً لتنظيم “القاعدة” أطلقوا عليه اسم “حراس الدين”. إضافة إلى ذلك، أدت هجمات “هيئة تحرير الشام” على جماعات ثوار أخرى، رغم اعتراض العديد من أعضاء الجماعة، إلى حدوث المزيد من الانشقاقات.

ورغم الخسائر التي تكبدتها الجماعة في الآونة الأخيرة، فإنها ما تزال واحدة من أقوى فصائل الثوار في سوريا، حيث تسيطر على مناطق واسعة محيطة بإدلب، كما أنها قادرة على الاستنجاد بمئات المقاتلين الملتزمين من ذوي الخبرة في المعارك من مختلف المناطق في شمال سوريا. لكن إذا كان من غير الواضح ما ستؤول إليه حرب الاستنزاف التي تخوضها الجماعة ضد “جبهة تحرير سوريا”، التي أصبحت أكثر عدداً، فإن “هيئة تحرير الشام” قد فقدت في الوقت الراهن على الأقل مكانتها كقوة عسكرية مهيمنة.

AFP PHOTO / HO / SANA

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: