طوال موسم الحملة الرئاسية الأمريكية؛ أعلن جو بايدن عن معارضته لطريقة تعامُل الرئيس دونالد ترامب مع جميع القضايا تقريبًا، بداية من جائحة كورونا (كوفيد-19)، ومرورًا بالاقتصاد والأعمال الوحشية للشرطة، وصولاً إلى التغير المناخي. وكانت المرة الوحيدة التي أشاد فيها بايدن، الذي أصبح الآن الرئيس المنتخب، بإحدى سياسات إدارة ترامب عندما أثنى على الوساطة الأمريكية، التي ساهمت في تطبيع العلاقات بين إسرائيل وثلاثة دول عربية (حتى الآن)– الإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان.

تُشير حقيقة أن تلك كانت المبادرة الوحيدة لترامب التي حازت على إجماع الحزبين الديمقراطي والجمهوري في واشنطن، إلى أنه رغم معارضة بايدن للعشرات من سياسات ترامب، ولكنه، بصفته الرئيس، سيستمر في تشجيع الحكومات العربية على تطبيع العلاقات مع إسرائيل.

وعلى الرغم من عدم اعتراف أي من الحزبين الديمقراطي والجمهوري بذلك؛ إلا أن السياسة الخارجية الأمريكية تحظى غالبًا بدعم الحزبين، ربما فيما عدا في الاتفاق النووي الإيراني الذي تم في عهد الرئيس السابق باراك أوباما. بل إن حرب العراق عام 2003 التي كانت مُثيرة للجدل قد شهدت إجماعًا من الحزبين عند إطلاقها – بينما جاءت المشاحنات التي أعقبت ذلك -عندما انقلبت الأمور رأسًا على عقب- نتيجة المُناورات السياسية الداخلية.

وبشكل عام، فإن السياسة الخارجية الأمريكية لا تتغيّر بشكل جذري نتيجة تغييُر الرئيس المُستقر في البيت الأبيض. وغالبًا ما يقوم البيروقراطيون الخُبراء الذينخدموا لفترات طويلة في مُختلف المؤسسات الفيدرالية، مثل الدوائر العسكرية والاستخباراتية والدبلوماسية، برعاية السياسات التي تعمل على تعزيز المصالح العالمية لأمريكا.

والآن، حان وقت التحذير

ولا يعني ذلك بأي حال أنه من المُستحيل تجاهل الحصافة الدبلوماسية، وهو ما شهدته سنوات حُكم دونالد ترامب. ولم تسلم المصالح الأمريكية من الضرر الناجم عن تعليق العمل الدبلوماسي المناسب والناضج – والذي بلغ درجة الضرر الشديد. والواقع أن أقوى الاتهامات التي يمكن أن تُوجّه إلى السياسة الخارجية لإدارة ترامب هو أنها سعت إلى تقليص الدور الأمريكي على مستوى العالم، وانتهجت سياسة مُنغلقة وانعزالية فضلاً عن السُخرية من القومية العالمية التي باتت تحظى بالقليل من الأهمية – رغم خطورتها البالغة– بل إنها أكثر خطورة من أي دور قام به كِبار رجال الخارجية الأمريكية (في كوريا الشمالية على سبيل المثال). وفي بعض الأحيان –وربما في كثير منها- لم يعنِ مصطلح “الخارجية” في إطار السياسة الخارجية أكثر من الجهود المبذولة في الخارج لإعادة انتخاب ترامب. ومن هنا ظهرت الصين (بسياسة الحماية الاقتصادية لدعم الناخبين ذوي العقلية التجارية)؛ وظهرت إسرائيل (بسياسة داعمة لأصوات الناخبين اليهود الأمريكيين، والإذعان للمسيحيين الإنجيليين الذين يمثلون اليمين المتطرف).

وفيما يتعلق بإسرائيل، فقد تصرف ترامب وفقًا لطبيعته الأصلية كرجل أعمال يجيد التسويق، حيث أضفى الكثير من المبالغة على تلك المسألة، واتخذ قرارًا بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى مبنى القنصلية الأمريكية في القدس الغربية، كما وعد باتخاذ “مبنى جديد وضخم” للسفارة، لكن أحدًا لم يسمع بأي شيء يخص هذا الأمر منذ قيام ابنته إيفانكا وزوجها جاريد كوشنر بافتتاح السفارة الجديدة في مبنى القنصلية الأمريكية.

لكن ترامب لم ينطق قط بالكلمة التي أراد الإسرائيليون سماعها: وهي أن “القدس الموحدة” باتت عاصمة إسرائيل. بل ظل ترامب غامضًا فيما يخص تلك المسألة. وبذلك، ظلت سياسة ترامب متوافقة مع الإجماع الدولي، الذي يشمل موقف منظمة التعاون الإسلامي الذي يرى أن العاصمة المستقبلية للدولة الفلسطينية ستكون القدس الشرقية. ويعود موقف ترامب من تلك القضية إلى حد كبير إلى أن سياسته تجاه إسرائيل كانت مُوَجَّهَة إلى قاعدته الانتخابية في الداخل الأمريكي، وليس لخدمة أي مبادئ سامية كالسياسة الأمريكية.

ورغم ذلك، سيتبع بايدن نفس سياسة ترامب تجاه إسرائيل بحرص وعلى أساس انتقائي، وسيواصل بايدن، الذي سيصبح قريبًا رئيسًا للولايات المتحدة، دعم أمريكا لإسرائيل وحلفائها العرب، كما سيُواصل الجهود المبذولة لإقناع أولئك الحلفاء العرب بتطبيع علاقاتهم مع إسرائيل. وسيفعل بايدن ذلك لأن جوهر السياسة الأمريكية يُصبح راسخًا، حينما يتوافق مع تطلعات أمريكا للقيادة العالمية. والأهم من ذلك، هو أن بايدن سيفعل ذلك من خلال وضع سياسة في سياق مُخالف للأعراف الدبلوماسية للولايات المتحدة، عبر الاستعانة مجددًا بأفكار كِبار الشخصيات في مجتمع السياسة الخارجية الأمريكية.

وفي تلك الحالة؛ فإن استمرار بايدن في سياسة ترامب تجاه إسرائيل والدول العربية لن يؤدي إلى تقويض وضع وطموحات الفلسطينيين. في المُقابل، من المُرجَّح أن يتمسك بايدن بموقف أوباما من عملية السلام الفلسطينية- الإسرائيلية: فمن المُستحيل أن تكون تفوق رغبة الولايات المتحدة في السلام رغبة طرفي النزاع أنفسهم؛ لذلك، فإن الولايات المتحدة ستظل على استعداد لرعاية المفاوضات ودعم اتفاق السلام حين يرغب الطرفان في الوصول إلى تسوية حقيقية ويُصبحان مُستعدين فعلاً لذلك.

ولكن، لم يتضح بعد مدى النشاط الذي سيقوم به بايدن لدفع باقي الدول العربية للاعتراف بإسرائيل. وما نعلمه على وجه اليقين هو أن هذا النوع من الدبلوماسية لا يوجد له جوانب سلبية، فإما أن يُحقق بايدن بعض الإنجازات الدبلوماسية كالتي حققها ترامب في هذا الملف وأن يقف في دائرة الضوء عبر استضافة قادة عرب وإسرائيليين وهُم يوقّعون الاتفاقيات التاريخية في البيت الأبيض؛ أو يفشل في إقناع قادة العواصم العربية بالإقدام على تلك الخطوة وحينها لن يحدث شيء.

وقد تكون المكاسب الاقتصادية والثقافية وغيرها الناتجة عن اتفاقيات التطبيع بين العرب وإسرائيل– حتى خلال تلك المرحلة المُبكرة– أكثر وضوحًا في الإمارات العربية المتحدة، عند عقد الاتفاقيات وإقرار التعاون وإجراء الاتصالات. الأمر الذي قد يقنع الدول العربية التي لا تزال على الحياد بألا يقوموا بإسداء خدمة للفلسطينيين ويمتنعوا عن التطبيع مع إسرائيل. بل وقد يؤدي المزيد من اتفاقيات التطبيع في نهاية المطاف إلى إقناع الفلسطينيين والإسرائيليين بالسلام الذي بدأ يظهر في أماكن أخرى بالمنطقة.

وكما ذكرنا سلفًا فإن السياسة الخارجية الأمريكية لا تتغيّر عادةً من إدارة إلى أخرى. الأمر الذي يجعل من السنوات الأربعة السابقة أمرًا غير مسبوق. وإذا ما سار جو بايدن على نهج سلفه دونالد ترمب، فلن تشهد السياسة الأمريكية الكثير من التغيير تجاه إسرائيل، بل بالأحرى ستشهد تلك السياسة بعض النُضج التي هي في أمس الحاجة إليه.

 

حسين عبد الحسين هو مدير مكتب صحيفة “الراي” الكويتية اليومية في واشنطن، وهو زميل زائر سابقًا في معهد “تشاتام هاوس” لندن.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: