عقب الانتخابات الأمريكية المتوترة والمُستقطبة، والتي كشفت عن الانقسام الشديد في الدولة، بات فوز جو بايدن مُؤشرًا على التغيير الرئيسي في التوجه المُتعلق بسياسة المناخ والطاقة، بعد أربع سنوات من إنكار التغير المناخي والتثبيط الشديد من جانب إدارة ترامب لمسألة التحول في مجال الطاقة.
وقد اشتمل برنامج بايدن الانتخابي على أهداف طموحة، من بينها: الحرص على أن يُصبح إنتاج الكهرباء في الولايات المتحدة خاليًا من الكربون ومُعتمِدًا بشكل كبير على الطاقة المتجددة بحلول عام 2035، وتحقيق تعادل الأثر الكربوني بحلول عام 2050، والاستثمار في مجالات البحث والتطوير والبنية الأساسية الجديدة للطاقة، وتطوير الشبكة الوطنية للطاقة الكهربية، وتوسيع وكهربة شبكة السكك الحديدية، وتطوير تخزين/بطاريات الطاقة والتنقل الكهربائي، فضلاً عن العديد من المُبادرات الأخرى للتخلص من الكربون. كما أخذت تلك الخطة الطموحة بعين الاعتبار الجهود المتسارعة للتحول في مجال الطاقة في دول مثل الصين والاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية، والعديد من الدول الأخرى – وهي التطورات التي تُهدد الولايات المتحدة بخطر التخلف عن الركب في الثورة الصناعية القادمة.
ومع ذلك، فقد أسفرت تلك الانتخابات أيضًا عن تعقُد المشهد السياسي. الأمر الذي سيضع بايدن في مواجهة بيئة تشريعية معقدة ما لم يفز الحزب الديمقراطي بمقعدين في مجلس الشيوخ خلال الجولة الثانية في جورجيا. حيث سيعمل مجلس الشيوخ الذي سيظل تحت سيطرة الجمهوريين على السعي جاهدًا لعرقلة أي دور لبايدن. بالإضافة إلى أن جائحة كورونا (كوفيد-19) تستلزم اهتمامًا فوريًا ومُضاعفًا، وتستهلك المزيد من الجهود المبذولة في هذا الإطار.
بيد أن الصورة ليست قاتمة تمامًا، فلا يزال أمام الرئيس المنتخب بعض الوقت لإنجاز العمل؛ يمكنه أولاً بكل سهولة أن يُجدد التزام الولايات المتحدة باتفاقية باريس للمناخ للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري.
وبعد ذلك، من المتوقع أن يُعرَض على الكونجرس مشروع قانون تحفيز الاقتصاد بقيمة 2 تريليون دولار. ومع انتهاء الانتخابات، سيتعرَّض أعضاء مجلس الشيوخ من الحزب الجمهوري للضغط من أجل تقديم العون للأمريكيين الذين يعانون من الآثار الاقتصادية الناجمة عن جائحة كورونا، ويجب عليهم أن يكونوا قادرين على العمل مع الرئيس الجديد وزملائهم من الحزب الديمقراطي لضمان إقرار هذا القانون. ومن المتوقع أيضًا أن يتم تخصيص جزء كبير من تمويل هذا القانون– حوالي 600 مليار دولار – للطاقة النظيفة والبنية التحتية. ورغم أن هذا القانون سيستهدف الطاقة المتجددة إلى حدٍ كبير، لكنه لن يغفل أيضًا الطاقة النووية والوظائف الخضراء (المُراعية للبيئة) والاستثمارات المُتزايدة في مجالي البحث والتطوير، وستوفر الاستثمارات في مجالي البحث والتطوير دعمًا فوريًا للطاقة المتجددة.
ومن المُنتظر أيضًا أن يُسارع بايدن بإلغاء القرارات التنفيذية التي تعيق الاستثمار في الطاقة المتجددة لصالح الطاقة الهيدروكربونية. ورغم ذلك، فمن المحتمل أن يواجه بايدن بعض المعوقات خلال محاولاته لتعزيز تشريع قانون الهواء والماء النظيفين، في حال سيطر الجمهوريون على مجلس الشيوخ.
علاوة على ذلك، سيُعيد بايدن الضوابط التنظيمية على الصناعات المُسبِّبَة للتلوث، بما فيها الفحم والنفط والغاز. فبعد أن قامت إدارة ترامب بترجيح كفة الميزان لصالح تلك القطاعات، ستمنح عودة تلك الضوابط التنظيمية مؤشرات قوية للسوق فيما يتعلق بالاستثمار في الطاقة المتجددة. والواقع أن جميع تلك المعارك تستحق أن يخوضها بايدن.
وبغضّ النظر عن المجالات التشريعية والتنظيمية؛ هناك بعض التطورات الجارية في السوق من شأنها أن تحد من جدوى استثمارات الوقود الحفري. وقد كان للجائحة تأثير سلبي هائل على الطلب على الطاقة، مما أصاب قطاعي النفط والغاز في الولايات المتحدة بأضرار بالغة، وأشهرت أكثر من 300 شركة تعمل في مجال النفط والغاز الصخري إفلاسها. كشف هذا الأمر النقاب عن الأسرار القذرة لهذه الصناعة: فهي تُحقق استفادة هائلة ونادرًا ما تحقق هوامش التعادل بين التكلفة والإيرادات. والآن، أدى استهلاك مصادر الغاز الصخري التي يسهل استغلالها إلى وجود احتياطيات أكثر تكلفة ماليًا وبيئيًا. ومن ثم فقد باتت صناعة النفط الصخري غير مستقرة، مما يفتح الطريق أمام الطاقة المتجددة في الولايات المتحدة لتُصبح منافسًا قويًا وأن تمضي قدمًا.
يبدو ذلك وكأن القدر قد ابتسم للطاقة المُتجددة، فقد كشفت استطلاعات الرأي بصورة مستمرة عن وجود دعم قوي للطاقة النظيفة، في الوقت الذي تعهّد فيه بايدن بتوفير 2 تريليون دولار على مدار السنوات القليلة القادمة لوضع الولايات المتحدة ضمن أعلى التصنيفات في مجال الطاقة النظيفة. ولا شك أنه يُمكن التفكير في الإنفاق الحكومي على أنه أن تمويل أولي. ومع وجود إطارات تنظيمية جديدة تُركز على البيئة؛ سيشهد الاستثمار تصاعُدًا في مجال الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة والبنية الأساسية الخضراء. ومن المُحتمل أن ترتفع قيمة التمويل لتصل إلى أكثر من 10 تريليون دولار خلال السنوات العشرة القادمة، مع تحرك الولايات المتحدة وفقًا لرؤية بايدن بإنتاج الكهرباء الخالية من الكربون بحلول عام 2035.
يُدرك جو بايدن جيدًا أن المرحلة المقبلة من التصنيع سيكون لها تداعيات جيوسياسية هائلة. بينما تعتزم الإدارة القادمة إعادة الولايات المتحدة إلى المسار الصحيح لتصبح رائدة على العالم في مجال الطاقة المتجددة. ستُؤدي تلك الالتزامات إلى وجود قوة دفع جديدة في مجالي الطاقة والتحول الصناعي مع تداعيات جيوسياسية هائلة. والواقع أن الموارد الجديدة التي تُعزز التنمية لن تكون مُجرد سِلع مثل الفحم والنفط والغاز، بل ستعتمد على المعرفة والتكنولوجيا والابتكار.
وبعد أن ضاعفت الولايات المتحدة من رهانها في السابق على النموذج القديم لتأمين الطاقة القائمة على الهيدروكربون؛ لم تلبث أن تخلفت عن الركب أمام مُنافسيها الذين تقدموا عليها، ولا سيما الصين، في مجالات الابتكار والاستثمار في الطاقة المتجددة وتطوير البطاريات والتحول الرقمي والذكاء الاصطناعي والسيارات الكهربائية. وهذا يعني بالأساس، ضرورة النظر إلى تركيز إدارة بايدن على تكنولوجيا الطاقة النظيفة باعتباره خطوة حاسمة لاستعادة مكانة الولايات المتحدة في ريادتها العالمية في مجالي الصناعة والاقتصاد، في ظل بيئة اقتصادية مُتزايدة التعقيد. والواقع أن رؤية إدارة بايدن في مجال الطاقة تتمتع بأهمية قصوى للولايات المتحدة.
عدنان أمين هو زميل في مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية في كلية كينيدي للإدارة الحكومية بجامعة هارفارد، ويشغل أيضًا منصب المدير العام الفخري للوكالة الدولية للطاقة المتجددة التابعة للأمم المتحدة (IRENA).