في تشرين الثاني / نوفمبر 2008، وفي خضم الأزمة المالية الكبرى ما بين عامي و2009، قدم “رام إيمانويل”، المرشح المحتمل لمنصب رئيس موظفي البيت الأبيض، نصيحة إلى “باراك أوباما”، قائلاً له: “يجب أن تستغل الفرص لتحسين وضعك”، مشدداً على أن الأزمة قد تمثل فرصة لفعل أشياء ما كان لنا أن نفعلها من قبل”.
واليوم، نواجه مثل هذه الأزمة – إنها جائحة الفيروس التاجي – ويبدو أن الصين قد أخذت كلمات إيمانويل على محمل الجد. وبينما تتعافى البلاد من الموجة الأولية من العدوى، وبدأت عجلات الاقتصاد في التحرك مرة أخرى، تحاول بكين استغلال الفرصة لإثبات قيادتها العالمية، وإبراز مزايا نظامها السياسي مقارنة بالغرب.
ومن المحتمل أن يكون الغزو السياسي الذي تقوم به الصين له نفس أثر الأزمة المالية في 2008-2009 – وهو ضعف القيادة الأخلاقية للغرب، والتحول الهائل والتدريجي في النظام العالمي بينما تعيد بكين صياغة دورها.
ويبدو أن إستراتيجية الصين ذات شقين. الأول، هو عدم الزج ببكين في رواية الفيروس. وأثناء ذلك، يستثمر المسؤولون الصينيون في نظريات المؤامرة والتي تلقي بظلال من الشك على مصدر الفيروس (نشر المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية، تشاو ليجيان، مقاطع فيديو غير مؤكدة وغريبة تشير إلى أن الفيروس جاء إلى الصين عن طريق أفراد عسكريين أمريكيين)، وتسلط الضوء على سجل الصين الناجح في قمع نمو فيروس “كوفيد-19” في البلاد.
وبهذه الإستراتيجية، تستطيع الصين صياغة دورها مرة أخرى، ولا سيما دور الحزب الشيوعي الصيني، بعيدًا عن التعامل الأولي المضطرب والمضلل مع الفيروس والذي تضمن إخفاء الإحصائيات المتعلقة بهذا حول الفيروس، ومنع نشر المعلومات عنه، والفشل في التعامل بحماس مع الأزمة الصحية المتنامية. وبدلاً من ذلك، يمكن اعتبار “الحزب الشيوعي الصيني” جهاز ذو كفاءة وفاعلية، فهو الكيان الذي تمكن بفضل نظامه السياسي الاستبدادي والجماعي من قيادة شعبه بالطرق التي ناضلت الديمقراطيات الغربية من أجلها.
ثانياً، تعمل بكين على تعديل دورها في جائحة الفيروس التاجي إلى دور المُنقذ وليس المُتسبب فيه. وأرسلت الصين طائرات محملة بالمعدات و/أو الفرق الطبية إلى دول متنوعة مثل إيطاليا وفرنسا وصربيا وكمبوديا وإيران والعراق. وزودت بكين أيضًا الاتحاد الإفريقي بالآلاف من أجهزة الاختبار ليتم توزيعها على الدول الأعضاء، على الرغم من أن هذا التبرع لم ينل حقه من الاهتمام بسبب تبرع “جاك ما”، الملياردير المؤسس المشارك لشركة علي بابا، بطائرة محملة بالمعدات إلى أديس بابا، وتعهده بتقديم 20 ألف جهاز اختبار و100 ألف قناع و1000 بدلة واقية لكل من الدول الأفريقية الـ54.
إن السخاء الصيني مرحب بها بالطبع في حد ذاته، ولكنه يمنح بكين فائدة إضافية: حيث يعزز من قوتها الناعمة وتأثيرها على الصعيد العالمي. ومن الجدير بالملاحظة أن الصين عرضت المساعدة على دول حليفة لها إلى حد كبير (مثل، إيران وكمبوديا)، أو أقل تطورًا (كما في إفريقيا)، أو دولًا أضعف في العالم المتقدم والتي كانت متقبلة في مضى النفوذ الصيني المتنامي (فإيطاليا على سبيل المثال، كانت أول دولة متقدمة تقبل عضوية “مبادرة الحزام والطريق).
تستطيع بكين أن تصف نفسها بالمنقذ، لأنها تدعي أنها نجحت بالفعل في احتواء نمو الفيروس التاجي. وتمثل بكين موطنًا للعديد من المصانع العالمية والتي تصنع المعدات الطبية ذات الصلة (والتي لا يوجد لها الآن حاجة محلية)؛ ولأنه لا يوجد أمامها كقوى عظمى من ينافسها حاليًا في مكافحة الفيروسات التاجية.
وتاريخياً، كان يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تكون في وضعية أفضل تمكنها من التعامل مع أي أزمة عالمية، وذلك باستخدام نظام تحالفاتها المتطور، والموارد الضخمة لمضايقة الدول الأخرى وإقناعها للعمل في انسجام تام. وحاليا، لا تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية ممارسة هذا الدور القيادي بسبب حاجتها إلى التركيز على التعامل مع هذا الفيروس. إن ما يجعل دور القيادة شاغرًا في الغرب ليس الظروف وحدها. ويبدو أن إدارة ترامب ترفض بشدة فكرة التسويات اللازمة لحشد تحالف من الدول – وفي 25 مارس، كانت مجموعة الدول السبع، والتي يمكن القول أنها تضم الدول الأكثر تقاربًا مع الولايات المتحدة الأمريكية، غير قادرة على إصدار بيان مشترك حول الفيروس التاجي لأنه وبحسب التقارير أصرت الولايات المتحدة الأمريكية على وصف فيروس “كوفيد-19” بــ “فيروس ووهان”.
ومن الملاحظ بعدها أن رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، والذي سعى جاهدًا للقضاء على النمو المتسارع لحالات الإصابة بالفيروس في بلاده، اختار أن تكون أول مكالمة له مع الرئيس الصيني “شي جين بينغ”، وليس الرئيس الأمريكي. وتحولت إسبانيا، الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتستضيف أكبر قاعدة بحرية أوروبية تابعة للولايات المتحدة الأمريكية، إلى بكين قبل واشنطن. ويمكن تفسير ذلك من خلال قدرة الصين الفائقة على تصدير المعدات وتقديم الدعم، ولكن لا يزال هذا تحولًا ملحوظًا في الشؤون الدولية، وكان من غير الممكن التفكير فيه قبل 20 أو 10 أو ربما خمس سنوات.
وتحولت الأزمة المالية الكبرى إلى أزمة ثقة في الغرب – فالنظام الديمقراطي الرأسمالي، وكان موضع ترحيب باعتباره السبب في الفوز بالحرب الباردة، يتسبب الآن في أضرار لا حصر لها لتلك البلدان نفسها. ورداً على ذلك، استغلت الصين هذا الظرف للإشارة إلى أن اقتصادها الأكثر انضباطًا، ونظامها السياسي الاستبدادي هو من ساعد في التعامل بسرعة وفاعلية مع مثل تلك الأزمات. واليوم، تتكرر نفس الديناميكية، ومن المرجح أن تكون نتائجها هي التأكيد على التحول التدريجي في العلاقات الدولية الجارية منذ 30 عامًا والتعجيل به، حيث تهدف الصين إلى توسيع قوتها الناعمة ونفوذها داخل النظام الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية.
كريستيان لامير، مؤسس شركة Arcipel، وهي شركة استشارات إستراتيجية مقرها لندن ولاهاي. في وقت سابق، عمل “لامير” كبير المستشارين لإحدى الشركات في أبو ظبي، وأحد كبار الباحثين في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن.