في حقبة ما بعد الوباء؛ هؤلاء الذين يمثلون المجتمع المدني العالمي والذين يحاولون الوصول إلى مستقبل خالِ قدر الإمكان من القمع، من المحتمل أن يواجه هؤلاء سلسلة من التحديات، وذلك يعُد نتيجة للإجراءات التي أقدمت عليها الحكومات بوتيرة متسارعة على مستوى العالم. وتحت غطاء محاربة فيروس كورونا (كوفيد-19) قامت الحكومات الغير ليبرالية بإجراءات تشريعية للحصول على المزيد من النفوذ والمكاسب المادية الضخمة وتعطيل الجهود التي يقوم بها المجتمع المدني.

والواقع أن عمليات الإغلاق التي باتت حتمية بسبب انتشار فيروس كورونا، وما تبعها من تجميد نشاط المستهلكين لم تسفر فقط عن أزمات اقتصادية بل أدّت على وجه التحديد إلى أزمة باتت تواجه الطبقة الرأسمالية، ومن الطبيعي أن يتمثل محط التركيز الأول لأعمال الساسة على مستوى العالم على الاقتصاد للخروج من أزمة رأس المال، ومن الطبيعي أن يكون اهتمام الساسة بالاقتصاد في المقام الأول لأنهم يعتمدون على أموال الشركات من أجل تمويل الانتخابات، وفي الكثير من الدول الغير ديمقراطية فإن الساسة ينتمون للطبقة الرأسمالية، ويسيطر الباحثون على الأرباح على جزء كبير من الاقتصاد وذلك عبر الاستعانة بالأنظمة الحاكمة، ونتيجة لذلك قامت مُعظم الدول بالتركيز على الإجراءات الاقتصادية المتعلقة بالتمويلات بدعوى أن تلك هي الطريقة الأمثل لتوفير الوظائف، وعلى النقيض كان هناك تركيز أقل لتلك الدول على مسألة الطلب وكيفية وصول الأموال لجيوب المواطنين.

في الهند؛ قامت الولايات التي يسيطر عليها حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم الذي ينتمي له رئيس الوزراء ناريندرا مودي، بتمرير مجموعة كبيرة من قوانين العمل بذريعة تنفيذ خطة “جادة” لتشغيل الأشخاص الذين فقدوا أعمالهم جراء انتشار فيروس كورونا، والعمال بتلك الولايات الآن بات عليهم العمل لمدة 12 ساعة بشكل متواصل يوميًا دون تأمين حد أدنى من الأجور لهم، ودون مزايا لهؤلاء العمال أو توفير القليل منها، ودون احتياطات أمان كافية في أماكن العمل، وقد أعلن وزير المالية الهندي أيضًا عن خصخصة الأصول العامة، فضلًا عن السماح بدخول رأس المال الخاص إلى بعض القطاعات الاستراتيجية التي كان ممنوعًا في السابق الاستثمار فيها.

وفي الولايات المتحدة؛ استغل الرئيس دونالد ترامب وباء كورونا لإضعاف قوانين حماية البيئة التي طالما كانت تمثل شوكة في حلق الشركات الأمريكية، وشملت الإجراءات التي قام بها البيت الأبيض لدعم الاقتصاد إبرام سلسلة من الصفقات الرائعة للشركات الأمريكية، تلك الشركات التي تملك في الأصل الكثير من الأموال التي يتم استثمارها في بورصة الأوراق المالية، وتقديم التعويضات الباهظة للمديرين التنفيذيين فضلًا عن الحصول على حصص سخية من الأرباح خلال فترة ما قبل ظهور فيروس كورونا.

وقد استغلت الحكومات وباء كورونا أيضًا من أجل إحكام قبضتها على المزيد من مواطن القوة، وهذا يعني بالتبعية إضعاف المؤسسات وتدهور أوضاع حرية التعبير والتجمعات وتجريم الصحافة المستقلة.

في المجر؛ قام الحزب الحاكم الذي يسيطر على البرلمان بتدمير نفسه عبر السماح لرئيس الوزراء فيكتور أوربان بإصدار المراسيم، وفي الولايات المتحدة قام ترامب بفصل عدد من المفتشين العامين المكلفين بالرقابة المستقلة على المؤسسات الحكومية، بما فيهم هؤلاء المكلفين بالإشراف على أموال الدعم الخاصة بفيروس كورونا.

واستخدم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الوباء كمبرر لمنع انعقاد البرلمان، وفي العديد من الدول تم إلغاء أو تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى تحت ذات الذريعة، أما فيما يخص الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي بولاية ويسكونسن التي جرت مؤخرًا؛ أصدرت المحكمة العليا قرارًا بإجبار المواطنين على التصويت بشكل شخصي دون إعطاء سلطات الانتخابات الوقت الكافي لتأمين بيئة جيدة للانتخابات، ما أدّى إلى تقليل نسبة المشاركين في الانتخابات بشكل ملحوظ.

ولا يمكن الاعتماد على المؤسسات الإخبارية من الآن فصاعدًا لأداء تلك المهمة الشاقة نيابة عن المجتمع المدني، وفي العديد من الدول فإن الصحافة إما أنها تتعرض للرشوة من أجل تحقيق مصالح الحزب الحاكم (لدينا المجر كمثال) أو أن تلك الصحف تملكها مؤسسات على صلة بالحزب الحاكم (مثل الهند)، أو أن تلك الصحف تتوقف عن العمل عبر تعليق التراخيص الخاصة بها بسبب مشكلات تقنية (مثل الفلبين). وحتى قبل ظهور وباء كورونا أصدرت حكومة المملكة المتحدة بقيادة بوريس جونسون قرارًا بوقف إطلاع هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي على التمويلات العامة.

وحينما تبحث الصحافة المستقلة عن أجوبة يتمثل رد فعل الحكومات في إصدار قوانين لتجريم “الأخبار الكاذبة”، وعلى سبيل المثال قامت حكومة تايلاند بتمرير قوانين تُلزِم الصحف بالحصول على المعلومات المحلية حول فيروس كورونا من المؤتمرات الصحفية التي تعقدها الحكومة فقط بدلًا من الحصول على تلك المعلومات من مصادر مستقلة، وفي دولة كمبوديا المجاورة أعطت الحكومة نفسها الحق في مراقبة الاتصالات الخاصة، كما بدأت بالفعل في اعتقال المعارضين من الساسة والصحفيين بتهمة نشر “أخبار كاذبة”.

وهيئة القضاء الأعلى في الهند التي كانت تتسم بالعدوانية فقدت دورها كحامِ للحريات المدنية حين اشتعلت أزمة المهاجرين على مستوى البلاد، وطوال تلك الأزمة ظهرت هيئة القضاء الأعلى على أنها ذراعًا للسلطة التنفيذية عوضًا عن كونها أحد المؤسسات المستقلة البارزة التي تتبع الحكومة، وفي بولندا لم تقم الحكومة فقط بممارسة المزيد من السيطرة على القضاء، وإنما قامت أيضًا بتمرير قوانين تعمل على تجريم القضاة الذين يبدون اعتراضهم على تلك التغييرات.

وطالما كانت الصحافة والقضاء تعملان في صالح الحكومات في عدة مناطق على مستوى العالم، علاوة على ذلك مع تمرير مجموعة من القوانين الاستبدادية شديدة القسوة تعمل على تجريم حرية الرأي والتجمعات، فإن المجتمع المدني – بما فيه المنظمات الغير حكومية والنشطاء والمواطنين الذين يشعرون بالقلق أو المعارضة السياسية – سيواجه تحديات غير مسبوقة، وانتقال الصراع إلى شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي سيكون له على أفضل التقديرات تأثير ضئيل فيما يخص تشكيل روايات سياسية مضادة للحكومة، خاصة في الدول التي تعتمد السياسة فيها على التعبئة الضخمة.

ولا توجد أجوبة سهلة يمكن تقديمها فيما يخص الإجراءات التي يجب أن يلجأ إليها قادة المجتمع المدني لمواجهة تلك المجموعة من التحديات، خاصة في وقت يستدعي تحركات عاجلة، وفترة ما بعد الوباء ربما تكون بمثابة ناقوسًا لموت السياسة في عيون المواطنين، وبدلًا من ذلك ستتحول السياسة إلى ترسيخ مبدأ القوة في خدمة النخبة والمقربين منها.

 

يعمل دنيانيش كامات كمحلل سياسي، وهو متخصص في منطقتي الشرق الأوسط وجنوب آسيا، كما يقدم استشارات للحكومات حول السياسات والمبادرات الاستراتيجية، لتعزيز نمو الصناعات الإبداعية مثل الإعلام والترفيه والثقافة.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: