هناك معلومة دقيقة تتعلق بالزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس السوداني “عمر البشير” إلى دمشق الأسبوع الماضي، والتي كُشف عنها النقاب قبل أن تطأ قدماه الأراضي السورية، وهي أن الطائرة التي أقلته من الخرطوم كانت طائرة روسية. وبهذه الزيارة، يكون عمر البشير أول زعيم عربي يزور البلاد منذ اندلاع الثورة في العام 2011. والإشارة كانت واضحة، فزيارة البشير، والذي مازال عرضة للاعتقال بسبب مذكرة الاعتقال الصادرة ضده من المحكمة الجنائية الدولية، كانت أشبه ببالونة اختبار، أي اختبار إمكانية رجوع سوريا مرة أخرى إلى أحضان دول الشرق الأوسط وخاصة الآن بعد أن نجح في قمع الثورة إجمالاً بأسلوبه الوحشي.
ومن وجهة نظر العالم العربي، لهذا التفسير ما يبرره. بيد أن زيارة البشير إلى سوريا تتعلق بروسيا أكثر من تعلقها بسوريا – وأكثر تعلقًا بأفريقيا دون الشرق الأوسط.
ومعرفة سبب ذهاب الرئيس السوداني إلى دمشق مستقلاً طائرة روسية، من الضرورة بمكان أن نبدأ من مكان آخر خارج الشرق الأوسط، في قرن أفريقيا.
أعلن وزير الخارجية الروسي في أغسطس عن خطط لإنشاء مركزًا لوجيستيًا في ميناء “إريتريا”، باعتبارها آخر دولة يمكن من خلالها إقامة روابط مع الدول الأخرى في القرن الأفريقي.
وعلى مدار السنوات القليلة الماضية، أصبحت المنطقة التي كانت مهملة إلى حد كبير منطقة إستراتيجية بدرجة كبيرة، فناك وجود عسكري لكلٍ من الولايات المتحدة الأمريكية والصين وفرنسا في دول القرن الأفريقي، ولكن بسبب الخطوات الواثقة من بعض الدول العربية لإنشاء “منطقة عربية موازية”، وتأكيدًا على نفوذها الإقليمي، أصبحت منطقة القرن الأفريقي مسرحًا لطموحات العديد من القوى الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، فهناك وجود لكلٍ من دولة الإمارات العربية المتحدة وتركيا وقطر.
إن قدوم روسيا إلى منطقة الشرق الأوسط كان متأخرًا نوعًا ما، وجاء اختيارها لإريتريا بعد أن وجدت تعنتًا من “جيبوتي” ذلك البلد الذي يستضيف القاعدة العسكرية الأمريكية الأكبر في أفريقيا.
ورغم ذلك تفوق طموحات روسيا منطقة القرن الأفريقي، حيث ترغب روسيا في إقامة روابط مع الأنظمة التي خارج مدار الغرب، وتغدق عليهم بالأموال أو الأسلحة أو الحماية السياسية مقابل دعمًا سياسيًا لروسيا، ووجدت روسيا ضالتها في “إريتريا”. وعندما بدأت روسيا محادثاتها مع “إريتريا” في مطلع هذا العام، كانت “إريتريا” منبوذة من المجتمع الدولي بسبب العقوبات الواسعة التي فرضتها الأمم المتحدة على مدار عشر سنوات تقريبًا، غير أن الأمم المتحدة رفعت العقوبات عن إريتريا الشهر الماضي وذلك بعد التقارب المفاجئ مع جيرانها.
ويبدو أن أفضل نموذج طبقته روسيا لبناء علاقات مع أعداء أعدائها هو نموذج جمهورية أفريقا الوسطى. والواقع يقول أن علاقة روسيا بجمهورية أفريقيا الوسطى تشبه علاقتها بسوريا.
وتشهد جمهورية أفريقيا الوسطى اضطرابات منذ العام 2013، وذلك بعد أن اجتاحت مجموعة من المتردين العاصمة وأزاحوا الرئيس عن السلطة، وأجرت البلاد فيما بعد انتخابات غير أن انتقال السلطة لم يكن بالأمر الهين، حيث يحتاج نصف الشعب تقريبًا إلى مساعدات إنسانية، وحوالى “20%” من الشعب قد نزحوا إلى أماكن أخرى داخل البلاد. وفي سوريا، لا تحكم الحكومة قبضتها إلا على أجزاء من البلاد، والباقي في يد المجموعات المسلحة.
وتشارك روسيا في هذا الصراع منذ العام الماضي، حيث تقوم بدور الوسيط الدبلوماسي بين المجموعات المسلحة، وتزود الحكومة بالمدربين العسكريين والأسلحة. وكما الحال في سوريا، كانت المفاجئة في مسؤولي العمليات الأمنية الخاصة الروس الموالين للكرملين ولا سيما جماعة اونجر الغامضة والتي تشير التقارير إلى أنها تخضع لوكالة الاستخبارات الروسية وتنشط في جمهورية أفريقيا الوسطى كما كان الحال في سوريا وأوكرانيا.
وسهلت روسيا أيضًا المفاوضات بين السودان، والتي لها حدود مشتركة مع جمهورية أفريقيا الوسطى، والميليشيات المسلحة داخل جمهورية أفريقيا الوسطى، مما جعل العلاقة بين السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى علاقة وثيقة. وفي واحدة من التفاصيل غير الهامة والتي تضيء هذا المشهد الكبير، نظمت روسيا على مدار فصل الصيف منافسة في الشعر في جمهورية أفريقيا الوسطى، وكانت الجائزة إقامة مدتها أسبوع في أحد المعسكرات المخصصة للأجازات في دولة القرم التي تحتلها روسيا.
ويتضح أن الإستراتيجية الروسية ترتكز على إقامة علاقات مع أعداء الغرب في الوقت الذي يضرب فيه الوهن أركان تلك الدول الأعداء، ومن ثم تشجيع تلك الدول تدريجيًا على الانضمام مرة أخرى إلى المؤسسات الدولية.
وفي مطلع هذا العام، قام وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” بجولة إلى عدة دول أفريقية لبحث التعاون الاقتصادي معها. ففي زيمبابوي، على الأخص، بحث لافروف سبل تعزيز التعاون العسكري رغم أن ثمة عقوبات مفروضة على “زيمبابوي”.
وبالطبع، كان الوجود الروسي في سوريا حسب الظاهر تحت إشراف عملية جنيف التي تشرف عليها الأمم المتحدة، وتسعى روسيا إلى توفير مخرج لسوريا لتعود مجددًا إلى المجتمع الدولي وربما جاء هذا بعد الانتخابات الشكلية التي أجراها النظام السوري. وقبل أن ترفع الأمم المتحدة العقوبات التي تفرضها على إريتريا، دعت روسيا منذ فترة طويلة إلى رفع تلك العقوبات. وبالنسبة إلى جمهورية أفريقيا الوسطى، والتي تخضع لعقوبات من الدول الغربية بالإضافة إلى حظر بيع الأسلحة إليها، طلبت موسكو العام الماضي استثناءًا من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لتسليم شحنة أسلحة إلى جمهورية أفريقيا الوسطى وهو ما حدث بالفعل، ونتيجة لذلك، اقترح وزير القوات المسلحة الفرنسية هذا الشهر أنه من الواجب رفع حظر الأسلحة نهائيًا.
وهذا هو المقصد من الزيارة السودانية السورية. ففي بادئ الأمر، يبدو أن روسيا تعمل على تسهيل الروابط بين الدولتين العربيتين، غير أنها تسعى فعليًا إلى تحقيق طموحاتها الإقليمية التوسعية، ولهذا نجد أن فلادمير بوتن يهتم بالتقرب إلى أعداء الغرب أكثر من التقرب إلى أصدقائه العرب.