بعد التقدم العسكري السريع الذي أحرزته أذربيجان الأسبوع الماضي، ها هي تستعد لفرض سيادتها الكاملة على ناغورني كاراباخ، الإقليم الجبلي المنفصل الذي طالما كان محل النزاع في البلاد، وكان تحت سيطرة عرق الأرمن على مدار ثلاثة قرون.
وما إن أوشك ذلك النزاع أن يُحَل، ستتحول أذربيجان الآن إلى حل نزاعها التالي مع أرمينيا: وهو إكمال ذلك الممر المسمى ناختشيفان (أو زنغزور). ولكن على النقيض من ناغورني كاراباخ، فإن شق ممر في جنوب أرمينيا سيكون له تداعيات خطرة على المنطقة، ليرسم الخريطة الجيوسياسية لإيران وروسيا وتركيا وربما إسرائيل من جديد.
في 2020، عُقدت اتفاقية لوقف إطلاق النار بوساطة من موسكو، لتنهي حربًا استمرت 44 يومًا بين أرمينيا وأذربيجان في ناغورني كاراباخ، وكانت هذه الاتفاقية تكفل “سلامة خطوط النقل بين المناطق الغربية من جمهورية أذربيجان وجمهورية ناختشيفان ذات الحكم الذاتي”. وتكون السيطرة على أجزاء اليابسة من تلك الخطوط في يد قوات الأمن الأرمينية بالإضافة إلى “قوات حرس الحدود التابعة لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي”.
نظرًا إلى أن الممر المزمع إقامته يتقاطع مع مقاطعة سيونيك، وهي الجزء الوحيد من أرمينيا الذي يشترك في الحدود مع إيران، فقد ترى أرمينيا أن وصولها إلى السوق الإيراني أصبح مهددًا. أما أذربيجان -على الجانب الآخر- فستتمتع بطريق مباشر ليس إلى ناختشيفان فحسب، بل إلى تركيا أيضًا؛ العضوة في حلف شمال الأطلسي، في حين أن إيران سترى أن شمالها قد أصبح شبه مطوق بالدول التركية.
لا عجب في أن إيران ترى المشروع مؤامرةً بزعامة تركيا لإنشاء ممر يربط دول حلف شمال الأطلسي بسهوب طوران، الموطن الأصلي للشعوب التركي؛ حيث إن وصول حلف شمال الأطلسي إلى حدودها الشمالية من شأنه إضعاف موقف طهران في جنوب القوقاز، ويشكل تهديدًا وجوديًا لإيران. ولهذا السبب شددت السلطات الإيرانية مرارًا وتكرارًا على أنها لن تسمح بإجراء أي تغييرات في الحدود الإقليمية، واصفةً المسألة بأنها خط أحمر لإيران.
كذلك تساور إيران مخاوف من أن إسرائيل قد تستغل التطورات الأخيرة لتقوية موقفها في تلك المنطقة ذات الأهمية الإستراتيجية. ويُذكر أنه بين عامَي 2016 و2020 بلغت واردات أذربيجان من الأسلحة الثقيلة 69% من الدولة اليهودية، ولطالما ذاعت شائعات بأن إسرائيل قد تستخدم قواعدها العسكرية في أذربيجان لقصف منشآت إيران النووية. وفي الواقع، تدرك إيران جيدًا أنه إذا اكتمل ممر ناختشيفان فستصبح طهران ثاني أكبر الخاسرين في الصراع الكاراباخي (بعد أرمينيا).
في الوقت نفسه، تتعافى روسيا من هزيمتها في ناغورني كاراباخ. وعلى الرغم من حضور قوات حفظ السلام الروسية في ذلك الإقليم المنفصل وانتشارها في المنطقة كجزء من اتفاقية وقف إطلاق النار التي عُقدت عام 2020، فإن موسكو لم تتمكن من وقف تقدم أذربيجان أو منع القوات الأرمينية من إلقاء السلاح والاندماج في صفوف أذربيجان.
لطالما كان التزام موسكو أمام أرمينيا مشكوكًا في أمره؛ فبعد هزيمة أرمينيا أمام أذربيجان عام 2020، أصبح من الواضح أن الكرملين لن يدافع عن مصالح يريفان في ناغورني كاراباخ، إذا كان من شأن ذلك أن يهدد استقرار علاقات روسيا المربحة في مجال الطاقة مع باكو.
وها هو الدليل على ذلك؛ ففي 20 سبتمبر، قُتل عديد من أفراد القوات الروسية، من بينهم قائد عسكري كبير في “عملية أذربيجانية ضد الإرهاب” في ناغورني كاراباخ. ولم يعلِّق الكرملين على الأمر. وقبلها بثلاثة أعوام، في أثناء حرب كاراباخ الثانية، أطلق الجيش الأذربيجاني النار على طائرة هليكوبتر عسكرية روسية طراز Mi-24 فوق أرمينيا، ما أسفر عن مقتل فردين من طاقمها. وآثرت موسكو الصمت مجددًا.
تدرك أرمينيا أنها لا يمكنها الاعتماد على دعم موسكو؛ ولذا سعت إلى إبعاد نفسها عن روسيا وتطبيع العلاقات، ليس مع أذربيجان عدوها اللدود فحسب، ولكن مع تركيا أيضًا.
بالإضافة إلى ذلك، تعمل أرمينيا على تأسيس علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية مع الولايات المتحدة، على أمل أن يقوي ذلك موقفها في المنطقة. وقد أجرى الطرفان مؤخرًا تدريبًا عسكريا مشتركًا، ما يمثل دليلاً أكبر على أن الكرملين سيجد صعوبة في إبقاء أرمينيا داخل نطاق سطوته.
وهكذا نتيجة لانتصار أذربيجان الأخير في ناغورني كاراباخ، قد تقوم دول الغرب وتركيا في النهاية بإقصاء روسيا عن جنوب القوقاز، ليصبح الكرملين ثالث أكبر الخاسرين. إن موسكو المنهمكة في حربها مع أوكرانيا تبدو غير قادرة على الحفاظ على سيطرتها على أرمينيا، تلك الدولة السوفيتية سابقًا التي يحتاج شعبها إلى الدعم الخارجي أشد الحاجة.
يبدو أن نهاية صراع كاراباخ سيمثل بداية عصر جديد من الاضطرابات في جنوب القوقاز. فمن المؤكد أن أذربيجان ستواصل جهودها لتطوير علاقة تعاونية دفاعية وثيقة مع إسرائيل وتركيا، بينما قد تحاول أرمينيا تنويع وارداتها من الأسلحة، وإنهاء اعتمادها على موسكو، وتعزير علاقاتها العسكرية مع الولايات المتحدة وإيران وربما الهند أيضًا.
وهذا يعني -بعبارة أخرى- أنه على الرغم من أن أحد الصراعات بين أذربيجان وأرمينيا قد قارب على الانتهاء، فإنه قد بدأ للتو صراع آخر أكثر أهمية؛ وهو النزاع على ممر ناختشيفان.
نيكولا ميكوفيك هو محلل سياسي في صربيا؛ ويركز في أعماله بصفة رئيسية على السياسات الخارجية لروسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا، مع إيلائه اهتمامًا خاصًا إلى سياسات الطاقة وشبكات تصديرها واستيرادها. X: @nikola_mikovic