مع استمرار القتال الشرس في أوكرانيا بدأت إعادة الحسابات الجيوسياسية الجديدة في جميع أنحاء العالم، وكانت الدول الأوربية في مقدمة الركب، حيث وعدت ألمانيا التي تقود الحراك الأوروبي بزيادة ميزانياتها العسكرية وفرض عقوبات قاسية على روسيا، والتزم عدد قليل من الدول بالحياد تجاه الصراع القائم.
وبالنظر إلى “صداقتها الخاصة” مع الولايات المتحدة، فقد فاجأ رد فعل إسرائيل البارد على الأزمة بعض المحللين، وبينما أدان وزير الخارجية الإسرائيلي العدوان الروسي على أوكرانيا، فإن الخطاب الرسمي من تل أبيب كان هادئا بشكل ملحوظ، ويعتبر هذا الغموض أكثر إثارة للاستغراب بالنظر إلى العدد الكبير من السكان اليهود في أوكرانيا، لأنه يضع فهم إسرائيل للمصالح القومية للشعب اليهودي في مقابل المصالح الضيقة لدولة إسرائيل، وتوضح الأزمة الأوكرانية الفرص القليلة التي يمكن فيها لإسرائيل وضع مصالح الشعب اليهودي فوق مصالحها.
واستخدمت إسرائيل أخطار “معاداة السامية العالمية” كذريعة لتأسيس الدولة الإسرائيلية، فبعد فظائع الإبادة الجماعية ضد اليهود في أوروبا، لا يمكن للشعب اليهودي العيش بدون دولة وجيش خاص به، وأثبت هذه الجدلية جدواها بشكل ملحوظ للحكومة الإسرائيلية في الدفاع عن عدوانها ضد الفلسطينيين والدول الأخرى في الشرق الأوسط، حيث تذرعت إسرائيل بانتظام بمصالح الشعب اليهودي لشرح أفعالها مثل احتلال القدس الشرقية واستيطان الأراضي الذي أشار إليها الكتاب المقدس في الضفة الغربية.
وبالنسبة لملايين اليهود الذين يعيشون خارج إسرائيل، فإن دعمهم للدولة ينبع من شعور عميق الجذور بأن إسرائيل هي ملاذهم الوحيد، فإذا أجبرتهم كراهية اليهود على المغادرة، فستستقبلهم إسرائيل وتوفر لهم الحماية. وتلعب مجموعات المناصرة القوية المؤيدة لإسرائيل مثل لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (آى أي بي آي سي) على هذه النبرة من المشاعر من أجل حشد الدعم لأهداف إسرائيل السياسية وإسكات المنتقدين الذين يسلطون الضوء على معاملة تل أبيب العدوانية تجاه الفلسطينيين.
وتمثل الأزمة الأوكرانية تحديًا كبيرا لذلك المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه الدعاية الإسرائيلية، كون أوكرانيا موطن لواحد من أكبر الجاليات اليهودية في أوروبا الشرقية، وهناك ما يقدر بنحو 50000 يهودي من الذين يمارسون الطقوس اليهودية في البلاد ويمكن رؤية معالم الحياة اليهودية من دُور العبادة إلى المراكز الثقافية في أماكن عدة. ويقدر عدد الأوكرانيين من أصل يهودي (ومن لهم الأهلية للهجرة إلى إسرائيل) بما يتراوح بين 200000 و400000 كما أن الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” وبعض وزرائه البارزين هم أيضا يهود، والرئيس زيلينسكي هو الرئيس اليهودي الوحيد في العالم خارج إسرائيل.
وبالنظر إلى الحجم الكبير للمجتمع اليهودي ومشاهد الحياة اليهودية الواضحة في أوكرانيا، فقد يعتقد المرء أن إسرائيل ستكون في مقدمة الصفوف لإيجاد حل للصراع ومساعدة المجتمع اليهودي، لكن ذلك الاعتقاد غير صحيح.
ومع استمرارية الصراع، ستزداد صعوبة الموقف الإسرائيلي، حيث أدى هجوم روسي على برج التلفزيون الرئيسي في كييف يوم الثلاثاء إلى تدمير موقع “بابي يار” التذكاري للهولوكوست (المحرقة) وقتل خمسة أشخاص، وجسد الموقع واحدة من أكبر المذابح التي شهدها اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، وقال زيلينسكي إن هجوم روسيا أظهر أن التاريخ يعيد نفسه، ونددت إسرائيل بالهجوم لكنها لم تشر إلى روسيا بصفتها مرتكبة الجرم.
ومن السهل على قادة إسرائيل الإعراب عن اهتمامهم بسلامة اليهود في جميع أنحاء العالم، ولكن إذا حمي الوطيس، فإن إسرائيل هي دولة مثل أي دولة أخرى، لها اهتماماتها الجيوسياسية، وفي حال الحرب الدائرة، لا تريد تل أبيب تعكير صفو علاقتها مع روسيا، لأن روسيا تلعب دورًا مهمًا في السياسة الإقليمية (وعلى وجه الخصوص في سوريا) كما إنها أيضًا شريك تجاري حيوي لإسرائيل. وقد قالت “أورنا مزراحي” وهي النائب السابق لمستشار الأمن القومي لإسرائيل لمجلة “نيويوركر” “من المهم جدًا بالنسبة لنا أن تغض روسيا الطرف عما كنا نفعله في سوريا، حيث حاولنا إعاقة نقل الأسلحة، والحد من ترسيخ التواجد الإيراني”.
وفي الأيام الأولى للصراع في أوكرانيا، رفضت إسرائيل طلبًا من الولايات المتحدة للمشاركة في دعم قرار للأمم المتحدة يدين الهجوم الروسي، حيث تراجعت تل أبيب عن هذا الموقف قائلة إنها ستنضم إلى القرار لكنها لن تدعم العقوبات ضد روسيا، ويبدو أن السياسة الواقعية تتفوق على الخطابات الرنانة لإسرائيل حول حماية الشعب اليهودي في جميع أنحاء العالم.
وقد جددت إسرائيل دعمها لليهود الأوكرانيين الراغبين في الهجرة إلى إسرائيل، لكنها لم تصل إلى حد تقديم الدعم لمن يرغب منهم في البقاء في وطنهم وصد العدوان الروسي، واللافت للنظر في هذا الموقف الإسرائيلي أن الحكومة الإسرائيلية لا تحاول حماية اليهود في أوطانهم، وكأن بها تقول لليهود الذين يعيشون في أوكرانيا “أنتم وشأنكم”.
لنكن واضحين، ليس على إسرائيل حماية الشعب اليهودي (أو أي شعب) خارج حدودها، بل إن الكثير من اليهود في الواقع يواجهون مشكلة أخلاقية مع إسرائيل التي تدعي تمثيلهم، لأنهم اتخذوا قرارًا واعيًا بعدم الهجرة إلى البلاد. وستستمر إسرائيل في التحدث باسم الشعب اليهودي عندما يكون ذلك في صالحها، ولهذا السبب أماطت الأزمة الأخيرة اللثام عن الكثير والكثير من التفاصيل، لأنه ليس من مصلحة إسرائيل تحدي روسيا، فقد تُرك يهود أوكرانيا لمواجهة الخطر بأنفسهم. وفي المرة القادمة التي تُعول فيها إسرائيل على يهود العالم لشرح أفعالها، سيكون من المفيد تذكر المعركة على السيادة الأوكرانية.
جوزيف دانا هو كاتب مقيم في جنوب إفريقيا والشرق الأوسط، وعمل كمراسل من القدس ورام الله والقاهرة وإسطنبول وأبو ظبي، كما شغل سابقًا منصب رئيس تحرير “إميرج 85″، وهو مشروع إعلامي مقره الإمارات العربية المتحدة، يستكشف التغيير في الأسواق الناشئة.