تصوَّر للحظة وفد القادة الأفارقة الذين سافروا إلى كييف وموسكو في مهمة سلام، وهو وفد ضم أربعة رؤساء دول إفريقية وممثلين عن دول في جميع أنحاء القارة ذهبوا جميعًا إلى طرفي النزاع في تلك الحرب الأوروبية. وهذا أبلغ دليل على حجم عواقب “العملية العسكرية الخاصة” لروسيا على العالم بعد عام من بدئها.

أدت هذه العواقب إلى خطتين عامتين للسلام، وربما إلى جهود خاصة أخرى. جاءت إحدى تلك الخطتين من الصين، والأخرى من تحالف يمثل قارة بأكملها. ولم تنجح أي من الخطتين، ولم توشك حتى إحداهما على الحصول على دعم بين طرفي النزاع.

وما أظهرته المناقشات التي أجراها القادة الأفارقة، أولًا مع كييف ثم موسكو، هو أن الجانبين ما زالا بعيدين تمامًا عن بعضهما البعض. لكن الحرب ليست وحدها التي تفصل بينهما؛ بل ما يمثل سلامًا لكل منهما ما زال غير واضح.

لقد تعثرت خطتا السلام الصينية والإفريقية لأن طبيعة ما يمكن أن يشكل “سلامًا” محل خلاف بين الطرفين. فمع استمرار الحرب، صار لدى روسيا الكثير من الخيارات لاتفاق السلام، بينما لدى أوكرانيا خيار واحد فقط.

كان للوفد الإفريقي، بقيادة رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا، أهمية كبيرة. فقد ذهب رامافوزا على رأس الوفد مع رؤساء ثلاث دول أخرى ورئيس وزراء مصر. وكان الأمر مؤثرًا من الناحية السياسية حيث سعى أفارقة إلى تولي مسؤولية صراع قائم خارج حدود بلادهم ولكنه أثر على القارة بشدة. ولكن خطة السلام التي قدموها، شأنها شأن الخطة الصينية التي سبقتها، كانت مخيبة للآمال وتقوم في الأساس على اتخاذ الطرفين تدابير لبناء الثقة. وقدَّم الرئيسان فولوديمير زيلينسكي وفلاديمير بوتين اعتراضات شديدة عليها.

أول اعتراض رئيسي أثاره زيلينسكي هو اعتراض ذكره من قبل، ولكنه يعكس تمسكًا بالرأي منذ بداية الصراع. فقال زيلينسكي إن محادثات السلام لن تكون ممكنة إلا بعد انسحاب روسيا من جميع الأراضي الأوكرانية. وقد اُستخدِمت هذه الصيغة نفسها في الماضي، وغالبًا ما يفهم على أنها لا تعني فقط الأراضي المحتلة مؤخرًا في شرق أوكرانيا، وإنما أيضًا شبه جزيرة القرم التي احتلتها روسيا وضمتها إليها في عام 2014.

هذا الموقف هو بالضبط ما يتوقعه المرء من حكومة في زمن الحرب، خاصة إذا كانت قد دُفِعت إلى حرب ليست من اختيارها. لكنه أيضًا موقف متطرف يعني منطقيًّا ليس فقط الانسحاب الروسي الكامل، وإنما أيضًا تقديم ضمانات كافية سواء من موسكو أو من أوروبا بعدم حدوث صراع مرة أخرى. فالسلام في نظر كييف لا يعني مجرد عودة أراضيها، وإنما أيضًا تغيُّر روسيا.

أما السلام في نظر روسيا، فهو مصطلح مبهم تمامًا. وقد جمدت موسكو بالفعل الصراعات في ثلاث دول مجاورة على الأقل، وهي جورجيا وأذربيجان ومولدوفا. ويمكنها تحمل تجميد صراع آخر.

ثمة خيار آخر، وهو “حرب أبدية”. هذا هو السيناريو الذي ربما تخشاه أوكرانيا والغرب أكثر من غيره. فتجميد الصراع سيُبقي كييف إلى الأبد في حالة استعداد عسكري وغير قادرة على تخصيص مواردها لإعادة الإعمار كما ينبغي. على الجانب الآخر، الحرب الأبدية ستستنزف باستمرار موارد أوكرانيا المحدودة وتختبر بشدة عزم الغرب على مواصلة تسليح أوكرانيا، لا سيما وأن الانتخابات انتشرت في الدول الغربية وجلبت إلى السلطة قادة جدد أقل استثمارًا.

هذا السيناريو ممكن، بل ومرجح، لأنه يرجح كفة القوة العسكرية الروسية. وقد أشار تحليل مذهل أجرته مجلة “ذا إيكونوميست” الشهر الماضي إلى أن روسيا كانت تستخدم حوالي 3 في المائة فقط من ناتجها المحلي الإجمالي في الحرب الأوكرانية، وهو أقل مما استخدمته الولايات المتحدة في الحرب الكورية التي استمرت لمدة ثلاث سنوات، وليس أكثر بكثير مما أنفقته الولايات المتحدة في فيتنام التي استمرت لمدة 20 عاما. لذا، فإن الوقت في صالح روسيا بقوة.

هذه هي الفجوة الأساسية بين طرفي النزاع؛ طبيعة السلام الذي يسعيان إليه. وهو ما لم تتطرق إليه أي خطة سلام بعد. أوكرانيا تريد، بل تحتاج إلى سلام دائم. ولا يمكن قبول أي شيء أقل من ذلك بعد الدمار المذهل الذي خلَّفته الحرب في العام الماضي. ومن المستحيل سياسيًّا بالنسبة لكييف أن تمر بكل هذا الألم والخسارة لمجرد أن تتوقف الحرب مؤقتًا وتُستأنف بعد عام أو عامين أو خمسة أعوام.

أما بالنسبة لروسيا، فالسلام الدائم ليس ضروريًّا. السلام التدريجي سيفي بالغرض. فيمكنها أن تكرر صفقة تصدير الحبوب أو تعمل على تبادل الأسرى. ويمكنها أن تتوقف عن استهداف العاصمة أو تجمد الصراع غرب نهر دنيبر. ويمكنها أن تدعو إلى هدنة في كل مكان باستثناء المناطق المحتلة والمتنازع عليها. كل هذه صور محتملة من “السلام” وكلها مطروحة للتفاوض.

لن يكون الوفد الأفريقي آخر وفد لقادة بعيدين عن أوروبا يسعون إلى إنهاء الصراع. فالهجوم المضاد الذي تتباهى به أوكرانيا يتعثر. ومن الصعب رؤية انتصار واضح لأي من الجانبين حتى في نهاية هذا العام. وإذا لم تنته الحرب، فيجب أن تسود صورة ما من صور السلام. ولكن أي من الصور المتعددة للسلام ستكون؟ وهل سيكون أي منهم مقبولة لأوكرانيا التي أنهكتها الحرب؟

 

يعمل فيصل اليافعي حاليًا على تأليف كتاب عن الشرق الأوسط، وهو مُعلِّق دائم على شبكات الأخبار التلفزيونية الدولية، وقد عمل في قنوات إخبارية مثل الجارديان وبي بي سي، وقدَّم تقارير عن الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا. تويتر: @FaisalAlYafai

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: