يشهد العالم ارتفاعا هائلاً لمعاداة السامية؛ حيث زاد معدل العنف المعاد للسامية بنسبة أكثر من 50 في المائة في الولايات المتحدة وحدها منذ عام 2016، وهو ذات العام الذي تم فيه انتخاب الرئيس دونالد ترامب. تعتبر الولايات المتحدة هي موطن ثاني أكبر مجتمع يهودي في العالم- بعد اسرائيل التي تعد أكبر مجتمع يهودي في العالم- وحليف قوي (أو داعم أساسي كما يقول البعض) لإسرائيل.
ففي الولايات المتحدة وأوروبا، يرجع سبب ارتفاع معدل الجرائم المعادية للسامية وانتشار لغة الكراهية إلي أعمال النشطاء اليمينيين المتطرفين. بالرغم من ذلك، حاولت المنظمات اليهودية -الخاضعة لإشراف الحكومة الإسرائيلية – ربط معاداة السامية بمعاداة الصهيونية، مدعية أن الأخيرة هي امتداد للأولى. لذلك لا يمكننا تجاهل ظهور “معاداة السامية اليسارية”، التي يُزعم انها تتخذ موقفًا سياسيًا متنكرًا في شكل معاداة الصهيونية. و هو ما يؤكد أن هذا الفهم للأحداث التاريخية و ظهور الحركات و المذاهب المعادية للصهيونية كان خطأً متعمدًا.
وهذا لأن الأمر لا يقتصر على ذلك التهديد من جانب معادي السامية وحسب، بل إنه يضع الفلسطينيين في موقف حرج حيث يلقي باللوم عليهم ويحملهم نتائج ما فعله النشطاء اليمينيون المتطرفون. والآن حان الوقت لكي يرد الفلسطينيون وأنصارهم حقهم و يعيدوا سرد الحقيقة ويرفضوا وضعهم في تلك المقارنة التي تعرضهم للخطر وعليهم التضامن مع الاقليات الأخرى المضطهدة بما في ذلك اليهود. ولا توجد طريقة أفضل للتغلب على تلك المؤامرة اليهودية التي طرحتها إسرائيل إلا من خلال التضامن الفلسطيني-اليهودي الحقيقي و مواجهة العنصرية بجميع أشكالها.
و لمعرفة أصل ربط معاداة السامية بمعاداة الصهيونية يجب علينا استقراء تاريخ إسرائيل الطويل و حملة الحكومة الاسرائيلية في تقوية علاقاتها العامة لإعادة تعريف أي عمل معادي للصهيونية بأنه معاد للسامية حيث ذهب تفكيرهم إلى أن المعادين للصهيونية ينكرون حق اليهود في تقرير مصيرهم وإقامة دولة خاصة بهم، و هو ما يعتبر في حد ذاته شكلًا من أشكال معاداة السامية.
و في الواقع فإن قولهم هذا مردود عليهم فالمعاداة الصهيونية لا تنكر حق اليهود في إقامة دولة، بل ترفض طبيعة وجود إسرائيل في فلسطين وتجريد الفلسطينيين من أراضيهم الأصلية نتيجة للاستعمار الصهيوني.
كما أن قولهم هذا يتجاهل حقيقة أن التوجه الحديث لمعاداة الصهيونية يرجع – بالأصل- إلى المجتمعات اليهودية القديمة حيث اعتبر اليهود المتدينون الصهيونية بدعة. ووفقًا لتفسيرهم للكتاب المقدس، لا يمكن إعادة تشكيل النظام اليهودي إلا عندما يعود السيد المسيح.
نظرًا لتطور فكرة الدولة اليهودية في مطلع القرن العشرين ، كانت معظم المجتمعات اليهودية في أوروبا والولايات المتحدة وفي معظم دول الشرق الأوسط مختلفة حول فكرة الصهيونية والدليل على ذلك الأعداد القليلة من اليهود الذين انتقلوا إلى فلسطين قبل الحرب العالمية الثانية، أو القلة القليلة من اليهود الأميركيين الذين يشعرون بالحاجة أو الرغبة في الانتقال إلى إسرائيل في الوقت الحالي.
وقد اصطدمت عبارة “معادة الصهيونية ما هي إلا معاداة السامية” بعقبة كبيرة عند ظهور حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) التي استخدمها الفلسطينيون لحشد الدعم الدولي عن طريق تشجيع أشكال متنوعة من مقاطعة دولة إسرائيل. ومن هنا حاولت الحكومة الإسرائيلية وصم هذه المقاومة السلمية للاحتلال الإسرائيلي بأنها معاداة للسامية. ومن ثم بدأ محو الحدود الفاصلة بين انتقاد دولة إسرائيل وانتقاد اليهود أنفسهم بشكل عام.
وهناك محاولة أخرى قامت بها دولة إسرائيل فيما يتعلق بالعلاقات العامة ألا وهي افتراض حقها في التحدث باسم اليهود على مستوى العالم على الرغم من حقيقة عدم تفويضها للقيام بهذه المهمة. إلا أن تعيين دولة إسرائيل بنفسها لتتحدث باسم اليهود أكد على عدم إمكانية توجيه أي انتقادات لمعاملتها مع الفلسطينيين بشكل أساسي. فلم يتم أبدًا مقارنة حركة المقاطعة الإسرائيلية بمقاطعة النازية للشركات اليهودية. ولهذا، فإن هذا النقاش لا يستند إلى أي حجة، ولكن ذلك لم يمنع المجتمع الموالي لدولة إسرائيل من طرحه ومناقشته.
ونتج عن هذه القصة المشوشة استحالة النقاش المترابط بشكل منطقي حول الحقائق الواقعية للاحتلال الإسرائيلي لأن الأمر كله مغطى بفكرة معاداة السامية. وأصبح وجود دولة فلسطين في حد ذاته معاديًا للسامية من هذه النظرة العالمية المشوهة لأنها تمثل عقبة أمام سيادة المجتمع اليهودي.
وما يزيد الوضع الحالي خطورة، هو حقيقة مواجهة المجتمع اليهودي لمعاداة السامية الأصلية. فقد اقتحم مسلحون من اليمينيون المتطرفون المعابد اليهودية وقتلوا اليهود بها. وتجمع النازيون الحديثون في حشود ضخمة بالمدن الأمريكية الكبرى يحتفلون ويهتفون بعبارات كثيرة منها “اليهود لن يستبدلونا”. وردت الحكومة الإسرائيلية والموالين لها على هذه التطورات المأساوية والهجمات العنيفة بالطبع ولكن ردها لم يكن بنفس قوة تحدثها عن الانتقادات المعادية للصهيونية. فبالفعل ركزوا على اليساريين المعادين للصهيونية وحركة المقاطعة الإسرائيلية ومنطقية الاحتلال الإسرائيلي. وكان هذا الخلل في الرد صادمًا ولكنه ليس مفاجئًا.
وفي نهاية الأمر، يقع عبء محاربة هذه القصة الخطيرة على عاتق المجتمع اليهودي المشتت وعلى الفلسطينيين أيضًا بشكل ساخر. وتوجد فرصة مميزة للقيادة الفلسطينية لفصل الاتحاد الخاطئ بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية. حيث يمكنها فعل ذلك عن طريق تأسيس مبدأ حق اليهود في تقرير مصيرهم. وهذا لا يعني التخلي عن حقهم في تقرير المصير الفلسطيني بأنفسهم، بل على العكس يعزز قضيتهم.
وقد أوضحت إسرائيل أنه على الرغم من ازدياد أعمال العنف المعادية للسامية حول العالم، تركز الدولة على شؤونها الداخلية وتوسعها وليس على سلامة اليهود المشابهين لهم. ولهذا فإن حديث إسرائيل نيابة عن يهود العالم أجمع لا أصل له.
يستطيع الفلسطينيون التأكيد على حقهم في تقرير مصيرهم باعتبارهم أقلية مستهدفة عن طريق التضامن مع اليهود الذين يضطهدهم اليمينيون المتطرفون ومن خلال عكس القصة وبدء مرحلة جديدة من الصراع.