معاهدات السلام بطبيعتها عبارة عن وثائق مُعقّدة، ونادرًا ما تجد طرفين متعارضين لديهما القُدرة على حل الخلافات بينهما في إطار اتفاقية تتسم بالإتقان، وحين نتحدث عن إسرائيل والشرق الأوسط فإن التحدي سوف يكون أصعب، واللافت للنظر على أي حال هو أن اتفاقية السلام التي تم إبرامها في العام 1994 بين الأردن وإسرائيل ظلّت مرنة على مدار الأعوام الخمس وعشرون السابقة، حتى أن تلك الاتفاقية صمدت أمام تحديات السياسة الداخلية حتى الآن على الأقل.

وخلال هذا الأسبوع أعلن الملك عبد الله عاهل الأردن عن إلغاء بندين في الاتفاقية يضمنان للحكومة الإسرائيلية استغلال منطقتين تابعتين للأردن بالقرب من الحدود مع إسرائيل، وهذا البند يسمح لإسرائيل بدخول منطقتين زراعيتين يُطلق عليهما “الباقورة” و”الغمر”، ومن المفترض تجديد هذا الامتياز كل 25 عامًا إلا إذا طلب أحد الطرفين تغيير الاتفاق، وبعد أن أبلغ الملك عبد الله إسرائيل بهذا القرار؛ قام العاهل الأردني بخطوة نادرة حيث قام توضيح قراره عبر مواقع التواصُل الاجتماعي، وأكّد على أن الأردن “سيقوم ببسط سيادته الكاملة على أراضيه”.

وبينما كانت تلك الخطوة بمثابة مفاجأة للمجتمع الدولي وبعض المسئولين الإسرائيليين، فإن سبب الإقدام على تلك الخطوة كان واضحًا، وبصفته وصيّ على المنطقة التي يوجد بها المسجد الأقصى بمدينة القدس؛ فقد شاهد الملك عبد الله إسرائيل وهي تضرب بسُلطته عرض الحائط، وعلى مدار الأعوام العشرة الماضية سمحت إسرائيل لنشطاء من الجناح اليميني بالدخول بشكل منتظم إلى مجمع المسجد الأقصى، بما فيهم هؤلاء الذين ينادون بتدمير المسجد الأقصى من أجل فتح الطريق أمام أحد المواقع الدينية اليهودية، حتى أن إسرائيل وضعت أجهزة للكشف عن المعادن وقامت بتغييرات أخرى حول منطقة مجمع المسجد الأقصى، وكانت تل أبيب تعلم أن تلك الخطوات سوف تؤدي إلى زيادة التوتُر علاوة على أنها ستؤدي إلى تقويض سُلطات الملك عبد الله، وعلى الرغم من رد الفعل الإسرائيلي الفاتر على قرار الملك عبد الله؛ فإن المسئولين الإسرائيليين يهددون بقطع المياه عن عمّان ما لم يتراجع ملك الأردن عن قراره.

وقد كانت هناك تحذيرات متتالية من قادة الأردن حول الحالة المُتردِيّة التي وصلت إليها عملية السلام، وقامت كل من إسرائيل والولايات المتحدة بغضّ الطرف بشكل كامل عن الاحتجاجات التي اندلعت بسبب قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والمخاوف الناجمة عن تصاعُد وتيرة العنف بقطاع غزة، ناهيك عن الواقعة التي حدثت العام الماضي والخاصة بقيام أحد حراس الأمن الإسرائيليين بقتل شخصين أردنيين غير مُسلحّين خارج السفارة الإسرائيلية في العاصمة الأردنية عمّان، لكن العداء الذي تكنّه إسرائيل ليس بالشيء الجديد.

والواقع أن توقيت هذا القرار الجريء والخاص بإعادة بسط السيادة الأردنية في مواجهة الجار الإسرائيلي الذي يتسم بالعداء هي قصة مشوقة، وتلك القصة لها علاقة بالشأن الأردني الداخلي أكثر من علاقتها بالسلوك الإسرائيلي المتهور، وخلال وقت مبكر من العام الحالي اندلعت احتجاجات على مستوى العاصمة الأردنية عمّان بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة والإصلاحات الضريبية والانهيار الاقتصادي الذي دفع بالمواطنين إلى شوارع عمّان، وقد كان الدافع وراء الاحتجاجات الرئيسية التي اندلعت في شهر يونيو هو سنّ قانون جديد بفرض ضريبة بغيضة على الأشخاص والمشروعات تنفيذًا لتعليمات صندوق النقد الدولي بغرض تخفيف مستويات الديون، ووفقًا لصندوق النقد الدولي فإن مجموع الديون يبلُغ 95% من الناتج المحلي الإجمالي للأردن، كما أنه ليست هناك توقعات بزيادة النمو الاقتصادي، مما يعني أنه لن تقل تلك النسبة الا بتقليل النفقات.

وفي الوقت ذاته فإن هناك مطالبات حادة من منظمات المجتمع المدني للحكومة بمحاربة الفساد والقضاء على السفه في الإنفاق، وعلى الرغم من إعفاء رئيس الوزراء هاني الملقي من واجباته إلا أن المشكلات الأساسية بقيت كما هي دون حلول.

والآن فقد تم إرسال نسخة جديدة من قانون الضريبة إلى البرلمان بعد أن تم إدخال بعض التعديلات الطفيفة عليها، ومع وجود بعض التغيير القليل فيما يخُص الاقتصاد الأردني فقد باتت الظروف مهيأة لاحتجاجات جديدة تشمل الأرضي الأردنية بطولها وعرضها، وقد أشار الكثير من المحللين الغربيين والبعض من نظرائهم الإسرائيليين إلى حالة البغض التي قوبلت بها الإصلاحات الضريبية في الأردن، واعتبروها بمثابة العامل الرئيسي وراء التغيير الذي طرأ على معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية، وكإحدى وسائل استرضاء المحتجين؛ وربما كبادرة على تحول طفيف؛ فقد وقف الملك عبد الله في وجه إسرائيل عبر تذكُر البند المنسي من معاهدة السلام، وتلك بالتأكيد لم تكن المرة الأولى التي يقوم فيها أحد قادة الشرق الأوسط باستغلال العناد الإسرائيلي كأداة سياسية من أجل الاستهلاك المحلي، ولنا أن ننظر إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يبدأ بتبنّي القضية الفلسطينية مرارًا وتكرارًا حينما يبدأ الاقتصاد التركي في الانهيار، وقد احترف الرجُل عملية استغلال القضية الفلسطينية كأداة لتشتيت الانتباه.

والآن فإن تلك الحقيقة السياسية البديهية لا يجب أن تقضي على الواقع الخاص بأن إسرائيل دولة مكروهة للغاية في منطقة الشرق الأوسط، وفي كل تحول أو تطور فإن ما يُطلق عليه الشارع العربي يتحد خلف الشعب الفلسطيني احتجاجا على الاحتلال والسلوك العدواني الإسرائيلي، وعلى سبيل المثال ففي أوج الربيع العربي قام المتظاهرون المصريون بتسلُق مبنى السفارة الإسرائيلية في القاهرة وقاموا بإنزال العلم الإسرائيلي من فوق مبنى السفارة، وعلى الرغم من أن غالبية العرب يشعرون بأن إسرائيل يجب أن تُحاسب على احتلالها للأراضي العربية الذي دام لعقود؛ إلا أن الواقع يقول أن مكانة إسرائيل في الشرق الأوسط تخطو نحو الأمان عامًا بعد عام، كنتيجة للمصالح المشتركة، وبالأخص في مواجهة إيران، الا انه لا يجب أن تتحقّق تلك المصالح على حساب الفلسطينيين.

وبغضّ النظر عن المأزق الأردني الفريد من نوعه؛ فإن الخطوة الأردنية الجريئة لا بد وأنها ستُقابل بالترحيب على مستوى المنطقة.

AFP PHOTO/KHALIL MAZRAAWI

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: