عندما عقدت الأمم المتحدة اجتماع في بداية شهر مارس لإصدار قرار ضد الغزو الروسي لأوكرانيا، كان هناك تأييد بأغلبية ساحقة.

لكن في الأيام التي تلت ذلك التصويت، وبعد أن تم تحديد قائمة العقوبات بقيادة واشنطن، ظهر اختلاف كبير بين الغرب وباقي بلدان العالم. حيث تم تطبيق العقوبات في المقام الأول من قبل دول أوروبا وأمريكا الشمالية، وكانت تلك العقوبات على روسيا بسبب هجومها على جارتها، وكان بقية دول العالم تراهن على روسيا، وتصدر إدانة سياسية لكنها لم تشارك في القرارات الاقتصادية ضدها.

ولم يكن ذلك الموقف واضحاً في أي مكان في العالم أكثر من وضوحه في الشرق الأوسط، حيث تردد حلفاء الولايات المتحدة التقليديون مثل المملكة العربية السعودية وإسرائيل، في تقديم إما انتقادات شديدة لروسيا، أو دعمًا بينا لبرنامج العقوبات الذي يقوده الغرب.

وقد نظرت كل دولة من تلك الدول، وفق منظورها الخاص، إلى عالم متغير وتساءلت عما إذا كان الرئيس المكسيكي “أندريس مانويل لوبيز أوبرادور” قد تحدث بلسان حالهم عندما قال: “نحن لا نعتبر أن [هذه الحرب] تهمنا”. ودول الشرق الأوسط لها أسبابها الخاصة، بالطبع، لتجنب إتباع النهج الأمريكي، لكن معظمها يتعلق بحروب المنطقة، فقد وضع تدخل فلاديمير بوتين إلى جانب نظام الأسد في دمشق روسيا في صميم الحسابات السياسية الخارجية لتركيا، كما تتمتع الدولتان أيضًا بعلاقات وثيقة في مجال الدفاع والطاقة.

ويسري الشيء نفسه على إسرائيل، التي باتت مقيدة في تحركاتها فوق الأجواء السورية من قبل الطائرات المقاتلة الروسية، فقد يسمح الخلاف مع روسيا للقوات الإيرانية وقوات حزب الله بالعمل على طول الطريق حتى حدود إسرائيل، كما تؤثر أنظمة الدفاع الروسية الموجودة في قاعدتها في سوريا على الحركة الجوية التجارية في مطار تل أبيب.

والخلافات بين البيت الأبيض والسعودية والإمارات معروفة جيداً، وتمتد إلى ما قبل الحرب على أوكرانيا، لكن موردي النفط العرب الرئيسيين بدوا مترددين في الموافقة على زيادة إنتاج النفط، وهو الأمر الذي من شأنه الضغط على روسيا بينما يخفف الضغط على المستهلكين الأمريكيين، وربما للسعي للحصول على تنازلات سياسية.

ولا يقتصر الأمر على الشرق الأوسط فقط.

ويقع معظم الـ  35 دولة  التي امتنعت عن التصويت على قرار الأمم المتحدة في تاريخ الثاني من شهر مارس في قارة أفريقيا، ولا يزال الكثيرون في إفريقيا، سواء من رجال السياسة أو من الجمهور العادي،  يتذكرون الدور الذي لعبه الاتحاد السوفيتي في الكفاح ضد الاستعمار، وفي أماكن أخرى، مثل أنجولا، التي امتنعت عن التصويت، لا تزال هناك علاقات تجارية وثيقة بين البلدين، حيث تلعب صناعة الدفاع الروسية دور في تلك البلدان كونها لا تزال أكبر مورد للأسلحة إلى جنوب الصحراء في إفريقيا.

وكان الامتناع عن التصويت الآخر الذي شد الانتباه هو من الجانب الهندي، فقد امتنعت كلتا الدولتين الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم عن التصويت، لكن الصين، باعتبارها قوة عظمى طموحة، لها أسبابها الخاصة، فيما يتعلق بمعارضة النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة. ولكن الحسابات الهندية كانت أقرب إلى حسابات الدول في  الشرق الأوسط، فهناك علاقات دفاعية طويلة الأمد مع روسيا، وهناك الواقعية الصعبة المتمثلة في إدراك مدى قرب روسيا جغرافياً من الهند، بقدر رغبتها في القرب من الولايات المتحدة، كما أن الهند تواجه أيضًا عملية موازنة صعبة في آسيا، فهي تحاول الاحتفاظ ببعض النفوذ مع روسيا حتى لا تميل موسكو كثيرًا في اتجاه بكين.

ما كشفته الحرب في أوكرانيا، ولا سيما الاستخدام السريع والموحد للعقوبات من قبل الغرب، هو أننا نعيش في عالم متغير، لكنه عالم لم تتضح معالمه الجديدة بعد.

لم يتوقع أحد وقوع مثل هذه الحرب البرية الحية والممتدة على حدود الناتو، ومن حيث تأثيرها على الجغرافيا السياسية، فقد قارنها البعض بهجمات 11 سبتمبر 2001، أو غزو العراق.

ومع ذلك، فإن المعسكرات السياسية لهذه الحرب ليست واضحة تمامًا كما كان عليه الحال في وقت ذلك الحدثين، وذلك لسبب واحد، أثناء تلك الفترة ، بعد مضي عقد من سقوط الاتحاد السوفيتي وقبل أن تكمل الصين صعودها لتصبح قوة عالمية، كانت الولايات المتحدة والغرب مسيطران على مسرح الأحداث. لكن يبدو العالم مختلفًا تمامًا الآن، مع حربين فاشلتين في العراق وأفغانستان، وتدافع مخزي من قبل القوة العظمى للخروج من أفغانستان في العام الماضي.

والعديد من البلدان ببساطة غير متأكدة من الشكل الذي قد يبدو عليه هذا العالم الجديد، ولا يسعون إلى تكرار تبني موقف حركة عدم الانحياز في زمن الحرب الباردة، لكن ربما ليسوا متأكدين من أنهم يستطيعون الميل كل الميل  لطرف من الأطراف، لا سيما بالنظر إلى الغموض الذي يلف موقف الصين.

هذا هو الفرق بين الغرب وباقي دول العالم، فتلك الدول لا تدعم روسيا بشكل مباشر لكنها أيضًا لا تشعر أن هذه الحرب تشكل تهديدًا مباشرًا عليها، على الأقل حتى الآن.

وبدلاً من النظر لتلك الحرب على أنها حدث يعيد تشكيل الجغرافيا السياسية بشكل أساسي، وعليه يتطلب ذلك استجابة غير مسبوقة، لا تزال العديد من البلدان تنظر إليه من منظور مصالحها الوطنية، بما معناه، على الرغم من الصور الصادمة للحرب في أوروبا، إلا أن المصالح السياسية تأخذ مجراها كما هو معتاد في باقي أنحاء العالم.

وهذا ما يفسر الموقف التركي من الصراع، حيث أنها منخرطه في صراع افتراضي كبير مع روسيا، وقد تكون قريبة جدًا من الخطوط الأمامية للقتال، وهي ثاني أكبر جيش في تحالف الناتو الذي قد يخوض تلك الحرب، لكنها تحاول خلق توازن استراتيجي.

لقد استخدمت معظم الدول التي امتنعت عن التصويت في الأمم المتحدة أو صوتت لصالح القرار، ثم رفضت بهدوء لاحقًا فرض عقوبات على روسيا، نسخة من العبارة المنمقة التي تنص أنه على الجانبين الالتزام بالسلام أو أن الحرب لا تحل الخلافات، لكن العبارة هي مجرد كلمات رنانة تخفي ورائها خلاف سياسي عميق بين الغرب وباقي دول العالم، فبالنسبة لمعظم تلك الدول، لا تقع الحرب تحت سمائهم.

 

يعمل فيصل اليافعي حاليًا على تأليف كتاب عن الشرق الأوسط وهو معلق منتظم الظهور على شبكات الأخبار التلفزيونية الدولية، وقد عمل لمنافذ إخبارية مثل  ذا قارديان” و “بي بي سي” ونشر تقارير عن الشرق الأوسط، وأوروبا الشرقية ،وآسيا وأفريقيا.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: