من المؤكد إن سقوط كابول في 15 أغسطس الحالي يشبه إلى حد كبير سقوط فيتنام “سايغون” قبل 46 عامًا، ويتجسد ذلك في صور خروج القوة العظمى من البلد، والتخلي عن الحلفاء واندفاع الجماهير نحو المروحيات بينما يتعالى صوت إطلاق النيران على الحشود الخائفة. ولكن هناك فرق رئيسي وجوهري بين كلا النزاعين، وهما أطول حربين خاضتهما الولايات المتحدة على مر تاريخها، ويتمثل الفرق تحديداً في الخصمين الأمريكيين في تلك الحروب، حيث كان الفيتناميون الشماليون يخوضون حربًا سياسية، بينما تخوض حركة طالبان حرباً ثقافية، وكان لدى مقاتلي الفيت كونغ في فيتنام رؤية لما يمكن أن يكون عليه مستقبل البلد، لكن لا تملك حركة طالبان سوى صورا تستلهمُها من الماضي الغابر.
وكان الصراع في فيتنام طويلًا وبالغ الوحشية، ولكن في جوهره، كان هناك مشروعان سياسيان: ففي فيتنام الشمالية، كان هناك مشروعًا ثوريًا، يسعى إلى تحقيق مجتمع شيوعي مستقل. بينما في جنوب البلد، نرى مشروعًا رأسماليًا ذا صبغة أمريكية، أي كانت حرباً يغلب عليها الطابع السياسي.
وفي الجانب الآخر، كانت معارك طالبان الطويلة في أفغانستان هي معارك ثقافية، أولاً، لتحقيق رؤيتهم في حقبة التسعينيات حول الاستقرار الثقافي للبلد الذي دمرته الحرب الأهلية، ثم طرد الجنود الأجانب الذين أطاحوا بـ “إمارتهم الإسلامية”، ولم يكن هناك مشروع سياسي في صميم تلك الرؤية.
وسمح المشروع السياسي لفيتنام بإمكانية التغيير، وفي الواقع بعد مضي أكثر من 10 سنوات من انتهاء الحرب، قام الحزب الشيوعي الحاكم، وهو نفس الحزب الذي فاز بالحرب، بإجراء تغييرات مهدت الطريق لـ “اقتصاد السوق ذو التوجه الاشتراكي” وهو الاقتصاد القائم حالياً، وقد سمح المشروع السياسي الذي قامت على أساسه الحرب بهذا الانتقال.
وليس من الراجح حصول ذلك مع طالبان، بل قد يكون مستحيلًا من الناحية الفلسفية..
ولا تُعد جماعة طالبان منظمة ذات أيديولوجية متماسكة، ومن المؤكد أنها غير قابلة للتغيير السياسي. حيث إن عقيدتهم التي يستنيرون بهديها قائمة على سياسة تحت مظلة الدين، وهي تخضع خضوعا تام لتفسيرات زعيم طالبان “الأمير”، كما لا توجد أي آلية لتغيير قراراته أو إعادة تفسيرها.
وأقرب شيء لدى حركة طالبان يشابه أو يناظر أي أيديولوجية مقننة أو أي مجموعة قوانين هو منشور “لايحة”، وهي مدونة سلوك منشورة لمقاتلي طالبان تحدد جوانب القتال والعدالة وحتى الحكم وفقًا لمبادئ الشريعة الإسلامية. وهي إحدى الطرق القليلة التي يمكن لقيادة طالبان من خلالها ضمان قدر من توحيد طريقة تعامل مقاتليهم مع السكان المدنيين عبر المسافات الشاسعة.
وحتى خلال السنوات الخمس من حكم طالبان في فترة أواخر التسعينيات، لم تكن هناك حكومة مركزية تفرض قوانين معيارية في جميع أنحاء البلاد. بل على العكس من ذلك، فقد تم تحديد القواعد والقوانين على المستوى المحلي لكل مدينة، وكانت النتيجة الحتمية أن المجتمعات النائية كانت أكثر تحفظًا من المجتمعات التي تقطن المدن الكبرى.
ولكن تتم مراجعة “لايحة” مركزيًا ومن دون إجراء نقاش عام، وعلماء الدين الذين يقومون بتحديثها يعينهم زعيم طالبان، وفي الواقع، ينص المنشور على أنه إذا واجه المقاتلون موقفًا لا تشمله اللائحة، فعليهم طلب النصح والمشورة من القيادة بدلاً من تفسير النص بأنفسهم.
وهذه الحاجة المستمرة لطلب النصح والإرشاد من القيادة ستجعل حكم أفغانستان الذي يقطنه الملايين شبه مستحيل، بسبب التعقيدات الخاصة بقضايا المحاكم والمعاهدات الخارجية والخلافات التجارية وهلم جرا. وإذا افترضنا استمرار نظام المحاكم الحالي، سيكون هناك مسار مزدوج ونظام عدالة موازٍ، أحدهما مليء بالفساد، ولكنه مدعوم في النهاية بالدستور الأفغاني الحالي، والآخر نظام محاكم شرعية يقضي بصورة عاجلة، لكن وفق وجهة نظر رجل واحد.
وهذا الاعتماد الكبير على حكم ورأي الأمير هو المشكلة الأساسية الذي تتزامن مع سيطرة طالبان على البلاد، وهذا يعني ضرورة إعادة النظر في التأكيدات والضمانات المقدمة من طرف حركة طالبان، التي قُدمت في المؤتمر الصحفي المنعقد هذا الأسبوع وفي تصريحاتها السابقة حول احترامهم لحقوق المرأة “في إطار الشريعة الإسلامية” كون الأمر متروك للأمير ليقرر ما يندرج تحت ذلك الإطار.
ولا يحتاج الأفغان إلى الانتظار لاستنباط أو استنتاج ما سيقرره الأمير، فما عليهم سوى النظر حولهم، فهناك الكثير من أصحاب المتاجر في كابول الذين يطمسون صور الإعلانات التي تظهر صور النساء وتقارير عن أشخاص يحرقون أوراقهم وينظفون ملفاتهم الشخصية على الإنترنت.
وجلست حركة طالبان على كرسي الحكم، من دون مشروع سياسي لقيادة البلاد، ومن خلال إيديولوجية لا تسعى سوى إلى تخليص البلاد من “التأثيرات الأجنبية” المبهمة، ولم تقدم شيئًا سوى العودة إلى الماضي الغابر. وعلى عكس فيتنام بعد عام 1975، فهناك فرصة ضئيلة لتوسيع رؤيتهم السياسية أو إعادة صياغتها، وهذا يعني حتى محدودية أي تحسينات أو تطوير محتمل والتي قد تأتي من جانب الدول الإسلامية المتاخمة، لأن طالبان لا تسعى إلى تقليد المشاريع السياسية الأخرى أو التعلم منها.
وفي مقال لصحيفة نيويورك تايمز في فبراير من العام الماضي، كتب سراج الدين حقاني، نائب زعيم طالبان: “إذا أمكننا التوصل إلى اتفاق مع عدو أجنبي، فالأحرى بنا أن نكون قادرين على حل الخلافات بين بعضنا البعض من خلال طاولة النقاش. ”
وهناك بالتأكيد مستقبل ينتظر أفغانستان، وهو يجمع ما بين الحقوق المنصوص عليها في دستور عام 2002 وثقافة أفغانستان وعاداتها، وهو ما يمكن اكتشافه من خلال المفاوضات، لكن طالبان لم تخض حربًا دامت زُهاء الـعشرين عامًا من أجل البدء في التفاوض الآن.
يقوم فيصل اليافعي حاليًا بتأليف كتاب عن الشرق الأوسط وهو معلق دائم الظهور على شبكات الأخبار التلفزيونية الدولية. وعمل لمنافذ إخبارية مثل ذاقارديان وبي بي سي، كما كتب تقارير عن الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا