أصحبت الصورة النمطية التي تميز جميع أنحاء آسيا على مدى العقود القليلة الماضية هي رافعات البناء التي تلوح في الأفق من على المباني الشاهقة التي تشابه الصناديق، والهواء المرقط بالغبار الناتج عن الآلات الصناعية التي تدور، والضجيج الدائم للسيارات والدراجات النارية. ومن شنغهاي إلى مومباي إلى دبي، أدى بناء مشاريع العقارات والبنية التحتية إلى تغيير جذري في الحياة والمجتمعات وحتى الجغرافيا السياسية في جميع أنحاء القارة الآسيوية الشاسعة وخارجها.
فكر في المكان الذي تقرأ فيه هذا المقال، قد تكون في إحدى ناطحة السحاب المبهرة في مكان ما في آسيا، وهي القارة التي تعد موطن أطول المباني في العالم، أو مكتب في لندن أو نيويورك، أو ربما مقهى في الرياض أو كراتشي، فأينما كنت، فقد شكل قطاع البناء والتشييد تجربتك وحياتك وسيستمر في التشكيل على مدى السنوات القادمة.
ومثل أخر هو مدينة شنتشن في عام 1979، حيث تم تحديدها كواحدة من أولى المناطق الاقتصادية الخاصة في الصين، وكانت تلك المدينة عبارة عن مركز صيد متواضع يضم حوالي 330000 شخص مع اقتصاد مخطط واتصال محدود مع العالم الخارجي، وهاهي اليوم مدينة مترامية الأطراف تضم ما يقرب من 13 مليون شخص ومركزا رئيسيا للتكنولوجيا وللعلامات التجارية الصينية المعروفة اليوم مثل تنسنت أو هواوي والجيل القادم من عمالقة التكنولوجيا.
وكانت مدينة شنتشن مجرد واحدة من العديد من المدن الصينية التي شهدت تحولا جذريا في أواخر القرن العشرين والعقدين الأولين من القرن الواحد والعشرين، وقد صبت الصين المزيد من الخرسانة المسلحة والأسمنت في مشاريع البناء من 2011 إلى عام 2013 أكثر مما استخدمت الولايات المتحدة طوال القرن العشرين، وشوهدت رافعات البناء في كل مكان في الصين على مدى العقود القليلة الماضية، كما كان إعادة تشكيل البيئة المبنية في الصين مذهل في النطاق والحجم وغير تاريخ المنطقة، مما ساعد على انتشال مئات الملايين من الناس من براثن الفقر وعزز مكانة الصين كقوة عظمى عالمية.
كما كانت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مركزا رئيسيا لقطاع البناء على مدى العقدين الماضيين، وفي حين استحوذت دبي على الكثير من الاهتمام بهندستها المعمارية المبهرة واشكال بناياتها التي تشبه بنايات مانهاتن، إلا أن دبي لم تكون وحيده، فمن القاهرة إلى كراتشي، ومن الرباط إلى الرياض، أعاد قطاع البناء والتشييد تشكيل المنطقة.
وفي منتصف الحرب العالمية الثانية، وقف رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل أمام مجلس العموم ووجه نداء لإعادة بناء قاعات المجلس المتضررة، التي دمرها القصف الألماني، وقال تشرشل: “نحن نبني مبانينا، وفي الغد تبنينا مبانينا”.
ويمكن قول الشيء نفسه حول مشاريع البناء الكبرى في البنية التحتية والعقارات، وهناك المشاريع البسيطة والمشاريع الدرامية، أولا البسيطة: مثل الإسكان، حيث لاتزال التنمية جيدة التخطيط في هذا القطاع إلى جانب تمويل الرهن العقاري الميسور وصكوك الملكية الموثوقة حجر الزاوية للطبقة الوسطى. ولفترة طويلة جدا، تم إهمال التوفير الأساسي للرهون العقارية والإسكان الميسور في جميع أنحاء المنطقة، وفي حين أن طفرة البناء في المملكة العربية السعودية تتصدر عناوين الصحف، فإن طفرة الرهن العقاري تستحق أيضا المزيد من الاهتمام.
أما المشاريع الدراماتيكية، على غرار مشاريع البنية التحتية الرئيسية التي غيرت ملامح جغرافيا العالم، فبالنظر إلى اثنين فقط من المشاريع الهندسية المتغيرة جغرافيا، وهما قناة السويس في أواخر القرن التاسع عشر وقناة بنما في أوائل القرن العشرين، وفي كلتا الحالتين، أعاد المهندسون تشكيل عالمنا، وربطوا المحيطات والبحار التي كانت تفصلها اليابسة، ورسموا مسارات جديدة للتجارة والتبادل التجاري، في حين أعادوا ترتيب الجغرافيا السياسية والاقتصاد العالميين.
ويحب بعض المعلقين القول إن الجغرافيا هي قدرنا، والحقيقة هي أننا لا نستطيع إيعاز مصيرنا إلى عامل واحد فقط، وأن تحديد الجغرافيا ببساطة يتجاوز ذلك العامل، فهي البيئة المبنية في جغرافيتك التي يمكن أن تشكل مصيرك، والسؤال الأكثر أهمية على الإطلاق هو: هل أنت متصل مع العالم؟ فجمهورية مصر وبنما أكثر ارتباطا بكثير مما كانتا ستكونان عليه بدون قناة السويس وقناة بنما التي صنعهما البشر.
وإذا كانت جغرافيتك غنية بالبنية التحتية التي تعزز التواصل مثل الموانئ البحرية والمطارات والطرق والسكك الحديدية والإنترنت عالي السرعة، فإن مصيرك سيكون مستقبل واعد بالخيرات، ولكن حتى أفضل المواقع الجغرافية يمكن تقويضها بسبب سوء التخطيط والإدارة. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك هي الصومال، حيث يملك الصومال ساحل طويل على المحيط الهندي وبحر العرب، ومدخل إلى شرق إفريقيا، مع سهولة الوصول إلى البحر الأحمر وإلى مدينة جدة الساحلية الصاخبة، ولم يفعل الصومال شيئا يذكر للاستفادة من موقعة الجغرافي ولا يزال دولة فاشلة ومتخبطة، وكذلك لبنان، التي تمتلك موقع جغرافي رائع مطل على البحر الأبيض المتوسط وحوكمة رديئة إلى حد كبير.
وعلى النقيض من ذلك، لم يكن هناك “قدر” جغرافي في صعود سنغافورة أو كوريا الجنوبية أو هونغ كونغ، واستفادت كل دولة أو مدينة من موردها التي لا تنضب أبدا وهي الجغرافيا وبنت البنية التحتية للاتصال لخلق بيئة مناسبة للأعمال والتجارة.
وسيكون المثال الرئيس في العالم العربي على تاريخ تغيير البناء هو تطور دولة الإمارات العربية المتحدة، ومرة أخرى، لم يكن هناك “قدر” للجغرافيا في صعود دولة الإمارات العربية المتحدة، وتمثل الدولة التي تضم 0.13 في المئة من سكان العالم الآن حوالي 2.5 في المائة من تجارة الحاويات البحرية في العالم و1.5 في المائة من إجمالي التجارة، وقد برزت كمركز رئيسي للطيران والسياحة والشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا والاستثمار الخارجي.
وانتقل مركز البناء اليوم في المنطقة إلى المملكة العربية السعودية، فقد أبهر مشروع نيوم الضخم المراقبين وأذهلهم، ولكن انظر عن كثب إلى مشاريع البناء والعقارات في جميع أنحاء المملكة على مدى السنوات الست الماضية بميزانية قدرها 1 تريليون دولار وسترى دولة تنطلق إلى الفضاء في مجال الاتصال وتحول بنية مجتمعها. في حين أن العناوين الرئيسية تعكس المبالغ المذهلة بالعملة الصعبة التي تم إنفاقها على تلك المشاريع، فمن المهم التذكر أن البنية التحتية وقطاع البناء، وليس الجغرافيا وحدها، هي من يشكل مصير الشعوب.
أفشين مولافي هو زميل فخري في معهد السياسة الخارجية التابع لكلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة ومحرر ومؤسس النشرة الإخبارية للعالم الناشئ.
تويتر: @AfshinMolavi