كانت الدبلوماسية العالمية خلال معظم سنوات القرن العشرين تتشكل في المقام الأول من خلال إطار عالمي، حيث سيطرت القوى العظمى على معظم الأصول السياسية والاقتصادية في العالم. ولكن شهد أوائل تسعينيات القرن العشرين تحولا نحو هيكل قوة مهيمن وأحادي القطب وذلك مع قيام الولايات المتحدة بلعب دور الزعيم العالمي، ويجري اليوم تحول جديد، وهو تحول نرى فيه القوى المتوسطة تعلب دور فاعل وحاسم في عالم متعدد الأقطاب.
إن قرار دعوة ستة أعضاء جدد وهي الأرجنتين ومصر وأثيوبيا وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة (وكلها تعتبر قوى متوسطة) إلى مجموعة اقتصادات مجموعة البريكس يفتح الباب لإضافة قيمة كبيرة لتعزيز الدبلوماسية الاقتصادية والمصالحة السياسية في عالم سريع التغير.
لقد أصبح التعاون ضروريا في عالم يتصارع مع التحديات العالمية التي تواجه الجميع، ولكن الإطار الحالي للعلاقات الدولية يترنح تحت وطأة المنافسات الجيوسياسية الدائمة والناشئة. إن إعادة إشعال الحرب البرية المطولة وهي الغزو الروسي لأوكرانيا دمر فكرة أن مثل تلك الصراعات صارت حصرا على كتب التاريخ. إن الاختلاف الوشيك في التجارة والتكنولوجيا بين الولايات المتحدة والصين له آثار بعيدة المدى، كما إن شبح تصاعد الانعزالية والحمائية يلوح في الأفق، وفي الوقت نفسه، فإن الصعود السريع للذكاء الاصطناعي والقلق الكبير حول ندرة الغذاء يزيد من تعقيد مجموعة القضايا التي يجب على قادة العالم مواجهتها.
إن الانتقال إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب يعني أن القوى المتوسطة لها الآن دور أكبر في تشكيل المعايير، والتوسط في الصراعات، وتعزيز التعاون. إن تعقيدات التحديات مثل تغير المناخ، والأزمات الصحية، والإرهاب تتطلب حلولا جماعية، وتدخل القوى المتوسطة، المسلحة بالفطنة الدبلوماسية والقدرة على التكيف، لسد الانقسامات.
وبالنسبة لدولة الإمارات العربية المتحدة، فإن الانضمام إلى مجموعة البريكس، التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، يدل على طموح البلاد لتعضيم نفوذها الجيوسياسي، وتشجيع التعاون متعدد الأطراف، والتكيف مع عالم متعدد الأقطاب. وكدولة شقت طريقها إلى الصدارة على الساحة العالمية، فإن اهتمام دولة الإمارات العربية المتحدة بالتوافق مع بريكس يكتسب أهمية تتجاوز مجرد الاعتبارات المالية، وتعكس هذه الخطوة سعي دولة الإمارات العربية المتحدة إلى إقامة شراكات استراتيجية عالمية.
وتكمن إحدى المزايا البارزة لدولة الإمارات العربية المتحدة في التنويع الاقتصادي وفرص النمو، ومن خلال التوافق مع الشركاء الرئيسيين بفضل خلق شبكة من اتفاقيات الشراكة الاقتصادية الشاملة، ويمكن لدولة الإمارات توسيع الإمكانيات التجارية. وقد وقعت دولة الإمارات العربية المتحدة بالفعل اتفاقيات سيبا مع الهند وإسرائيل وإندونيسيا وتركيا وكمبوديا، مع خطط لمزيد من تلك الاتفاقيات في القريب العاجل. وإلى جانب عضويتها في مجموعة البريكس، يمكن لهذه الخطوات أن تعزز مكانة الإمارات العالمية في مجال التجارة والخدمات اللوجستية، والدليل على هذه الإمكانات هو التجارة الثنائية المزدهرة بين الإمارات العربية المتحدة والهند، والتي من المتوقع أن تصل إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2030، كما زادت التجارة بين الإمارات والبرازيل بنسبة هائلة بلغت 32 في المائة بين عامي 2021 و 2022.
وتفتخر دول البريكس باقتصادات قوية تمثل جزءا كبيرا من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وقد برزت الصين تحديدا كأكبر شريك تجاري غير نفطي لدولة الإمارات العربية المتحدة، ولا تزال العلاقات الثنائية قوية. ويزدهر التعاون التكنولوجي، بدءا من عمل الأبحاث وإنتاج لقاحات ومصل لفيروس كورونا، إلى التعاون في البعثات الفضائية مثل مركبة راشد القمرية الإماراتية.
ومن خلال التوافق مع اقتصادات دول البريكس، يمكن لدولة الإمارات تنويع علاقاتها التجارية، والاستفادة من أسواق جديدة، وتوسيع نطاقها الاقتصادي مع الحفاظ على علاقاتها التقليدية في أوروبا وأمريكا الشمالية. ويعد هذا التنويع محوريا لتحقيق هدف دولة الإمارات العربية المتحدة المتمثل في مضاعفة ناتجها المحلي الإجمالي بحلول عام 2030، والحد من الاعتماد على النفط، وتعزيز اقتصاد قائم على المعرفة.
ومن خلال التعاون مع بريكس، ستجذب دولة الإمارات العربية المتحدة المواهب والاستثمارات، وتستفيد شركات تكنولوجيا المعلومات الهندية بالفعل من دولة الإمارات العربية المتحدة كمركز للوصول إلى الأسواق الإقليمية القريبة. كما يمكن للشراكات التعليمية مع الجامعات البرازيلية أن تساهم في تعزيز الابتكار في دولة الإمارات العربية المتحدة، ففي عام 2022، استثمرت مبادلة التي تتخذ من أبوظبي مقرا لها في جامعتين طبيتين في البرازيل من خلال حوالي 2000 بعثة دراسية. ويمكن للأحداث رفيعة المستوى، مثل القمة السنوية للتكنولوجيا بين الإمارات ودول البريكس، أن تحفز التواصل المهني. وبالمثل، من شأن مسرعة الأعمال الناشئة بين الإمارات ودول البريكس أن تزيد من جاذبية الإمارات العربية المتحدة كمركز للابتكار والاستثمار وجذب المواهب.
وفي الوقت الذي تتزايد فيه المواجهة العالمية، ترى أبو ظبي أن الاستثمار طويل الأجل في التعاون هو أفضل طريقة للمضي قدما، وتهدف السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة إلى تعزيز العلاقات مع مختلف الجهات الفاعلة، بما في ذلك الولايات المتحدة والصين والهند وروسيا والاتحاد الأوروبي. ويتماشى ذلك مع مبادرات أبوظبي الأوسع نطاقا، وتعزيز العلاقات من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها. وفي الوقت الذي تستعد فيه دولة الإمارات العربية المتحدة لاستضافة قمة تغير المناخ COP28 ، يمكن لوجهات نظرها إثراء مداولات بريكس حول المسائل الحاسمة مثل التنمية المستدامة وتغير المناخ ومكافحة الإرهاب والاستقرار الإقليمي.
ولا ترى الإمارات أن انضمامها إلى بريكس يعني انضمامها إلى كتلة ما، بل على العكس من ذلك، ترى أنها تنوع شراكاتها وأسواقها مع الحفاظ على علاقاتها التقليدية مع بقية العالم. وقد أوضح ذلك وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد، عندما قال: “لقد دافعت دولة الإمارات العربية المتحدة باستمرار عن قيمة التعددية في دعم السلام والأمن والتنمية على مستوى العالم”.
تمكن عضوية بريكس الإمارات العربية المتحدة من تعزيز استراتيجيتها متعددة التحالفات من خلال تعزيز علاقاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة من خلال مبادرات مثل I2U2 (إسرائيل والهند والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة) ومع الصين من خلال مجموعة بريكس. إن التحديات المعقدة التي تواجه عالمنا تتطلب جهودا تعاونية تتجاوز القوى العظمى الفردية، إن قدرة القوى المتوسطة على سد الفجوات الثقافية، وتعزيز الروابط الاقتصادية، ودعم القيم العالمية تجعلها لاعب لا غنى عنه في قيادة العالم.
ملادينوف هو المدير العام لأكاديمية أنور قرقاش الدبلوماسية في أبو ظبي وزميل زائر في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، وهو وكيل الأمين العام السابق للأمم المتحدة ووزير خارجية بلغاريا.
تويتر: @nmladenov