بالرغم من صغر مساحتها، تلعب جيبوتي دورًا غير مألوفًا على الساحة الجيوسياسية. ويقول البعض أنه يوجد في تلك الدولة الواقعة في شرق القارة الأفريقية المنشئات العسكرية الأكثر قيمة في العالم. ولأنها تطل على مضيق باب المندب في البحر الأحمر، بين اليمن والصومال وإريتريا، تمثل جيبوتي محورا للتجارة العالمية والنزاعات التي تتعلق بها. ويمثل البحر الأحمر طريق عبور التجارة العالمية عبر قناة السويس، وبالتالي هناك حاجة إلى حماية هذا البحر من القرصنة والاضطرابات المختلفة التي يشهدها شواطئه والدول المطلة عليه مباشرة، ولا يمكن للدول الساحلية من الناحية الواقعية توفير تلك الحماية، ونتيجة لذلك أصبحت ثالث أصغر دولة في أفريقيا موطنًا للقواعد العسكرية الأجنبية أكثر من أي دولة أخرى. ولكن هل ستبقى تلك القواعد قائمة في تلك الدولة لفترة طويلة؟
والسبب في طرح هذا التساؤل هو أن ثمة اعتقاد بأن القرارات غير الحكيمة التي اتخذتها حكومة “جيبوتي” كانت بإيعاز من الصين (وسيتم مناقشة ذلك لاحقا). هذا وقد شرع رئيس الدولة، إسماعيل عمر جيلي، في تقويض سيادة القانون من خلال مصادرة الممتلكات بشكل عشوائي. وفي وقت سابق من هذا العام، انتزعت حكومة جيبوتي إدارة محطة “دوراليه” للحاويات من المشغل الإماراتي وهي شركة “موانئ دبي” العالمية. وأقدمت حكومة جيبوتي على هذا الفعل رغم أن محكمة التحكيم الدولي في المملكة المتحدة قد أصدرت قرارها المناهض لتدخل حكومة جيبوتي في مشروع الميناء ووصفته بالعمل غير القانوني.
إن أفعال حكومة جيبوتي فيما يتعلق بشركة موانئ دبي العالمية قد أثار تساؤلات جادة بشأن علاقتها العسكرية غير المحدودة مع الدول التي تدير المنشئات الموجودة على شواطئها. والسؤال هنا، إلى أي مدى تلك القواعد العسكرية في مأمن من المصادرة؟ وهل تلك القواعد العسكرية عرضة لخطر الطرد إذا ما عمت الفوضوية البلاد؟. والآن يستدعي الرئيس “جيلي”، بعد أن استشهد “بالتدخل الأجنبي” للسيطرة على ميناء “دوراليه”، فكرة القومية الشعبوية لحصد نقاط سياسية. فهل هناك قرارات أكثر ملائمة يمكنها إلغاء تلك العقود التي حُررت بنوايا حسنة في سبيل تحقيق أغراض سياسية؟.
إن ما أقدمت حكومة جيبوتي على فعله قد يدفع الآخرين إلى البحث بسرعة عن موانئ بديلة ومنشئات أخرى. وبالطبع، لقد حدث هذا بالفعل. لكن المهم هو أن المصادرة التي حدثت مؤخرًا قد تعجل بالقرارات التي تضر بدولة “جيبوتي”. وبعد أن نالت إريتريا استقلالها في العام 1993، وجدت “إثيوبيا” نفسها دولة بلا موانئ. ومنذ ذلك الحين، أصبحت “إثيوبيا” تعتمد على موانئ جيبوتي للوصول إلى الطرق التجارية الحيوية. ولم يكن هذا الأمر دومًا مثاليًا لإثيوبيا، لأن أديس أبابا لا ترغب أن تكون تحت وطأة نزوات الرئيس “الجيبوتي” أو أي قوة سياسة أخرى عندما يتعلق الأمر بتأمين القنوات التجارية الحيوية. وبالتالي، فكرت “إثيوبيا” في خيارات البحث عن موانئ جديدة في جمهورية صوماليلاند القائمة فعليًا، وفي دولتي “كينيا” و”السودان”. ونظرًا لقربه الشديد من “أديس أبابا”، فإن ميناء “بربرة” في صوماليلاند هو قطعًا الخيار الأمثل لإثيوبيا، ولا يتطلب العمل في دولة صوماليلاند إلى أي شيء سوى موافقة دولة صوماليلاند.
ونظرًا لعدم وجود الموارد اللازمة لإنشاء ميناء ضخم في دولة غير معترف بها كدولة “صوماليلاند”، لجأت “إثيوبيا” إلى دول الخليج العربي. وتمتلك دولة الإمارات العربية المتحدة مصالح عسكرية واقتصادية متنامية في دولة “صوماليلاند”. وفي العام 2017، بدأت دولة الإمارات العربية المتحدة في بناء قاعدة عسكرية في ميناء “بربرة”، ومؤخرًا وقعت شركة “موانئ دبي العالمية” اتفاقية لإدارة العمليات التجارية للميناء لمدة ثلاثين “30” عامًا. وبالتالي، استحوذت “أثيوبيا” على “19%” من أسهم ميناء “بربرة”، وهو ما منحها حصة مالكة وقدرًا من الاطمئنان.
وما لم تتغير الأمور في جيبوتي، ويتعين على الدول الأخرى إعادة تقييم وجودها في تلك الدولة في ظل المقتضيات العسكرية والتجارية.
وبالفعل، هناك مساعي من جانب الشركاء الأجانب لإيجاد شركاء آخرين ولاسيما في ظل نمو العلاقات بين جيبوتي والصين، علمًا بأن الصين تدير قاعدتها العسكرية الوحيدة في البلاد، واستثمرت فيها أموال طائلة، ولهذا فمن الواضح أن الصين هي الدولة الأكثر نفوذًا من بين الدول العاملة في دولة “جيبوتي”. (ما مدى قلق الصين من مسألة “التدخل الأجنبي”؟)، قدمت الصين قرابة الـ1,4 مليار دولار أمريكي إلى “جيبوتي” لإنشاء مشروعات رئيسية، ويعادل هذا الرقم “75%” من إجمالي الناتج المحلي لدولة “جيبوتي”، وتتضمن تلك المشروعات خطوط الأنابيب ومطارات جديدة وميناء جديد ومستودع للنفط فضلاً عن الطرق. إن الأموال التي تستثمرها الصين في جيبوتي – والديون المترتبة على ذلك لصالح الصين – قد منحت الصين نفوذًا هائلاً، وفي ظل تنامي هذا النفوذ، أُثيرت على الفور تساؤلات بخصوص مدى متانة العلاقات الأمنية الأخرى في دولة “جيبوتي”، ومدى التزام دولة “جيبوتي” بتلك الالتزامات.
غير أن الغرب لم يطرح مثل تلك التساؤلات لا ظاهريًا أو صراحة على الأقل، ومازالت تلك التساؤلات غير مطروحة حتى اللحظة. ومن الملفت للنظر أن الدول الغربية ودول أخرى مثل اليابان لا يبدوا أنها تأثرت بالتطورات الأخيرة في دولة “جيبوتي” وكذلك القرن الأفريقي. وفي الوقت الذي قلصت فيه الدول الأوروبية عملياتها العسكرية (مع تراجع القرصنة البحرية في المنطقة)، هناك العديد من الدول الأوروبية التي مازالت تشارك فرنسا في قواعدها العسكرية في “جيبوتي”. وتستخدم الولايات المتحدة الأراضي الجيبوتية لتشغيل أسطول من الطائرات المسيرة من القاعدتين الجويتين الموجودتين في البلاد. هذا ولم تعلق الولايات المتحدة بوضوح بعد على التدخل الصيني في جيبوتي أو الإجراءات التي اتخذتها دولة جيبوتي ضد شركة “موانئ دبي” العالمية. وفي ظل تغير ميزان القوى في منطقة القرن الأفريقي، لم يبدي بوضوح الغرب مخاوفه من التداعيات الخطيرة لهذا التغير على أمن المنطقة، رغم أنه من الضرورة بمكان الاكتراث لهذا التغير في ميزان القوى. وفي الحقيقة، من الضرورة بمكان أن تعلم السلطات في جيبوتي أنها من الواجب عليها الالتزام بالقانون الدولي والعقود التي أبرمتها في وقت سابق.
لقد تبوأت الصين مكانة بارزة في جيبوتي وذلك في أعقاب إطلاق مبادرة الحزام والطريق الصينية. ورغم ذلك، قد ترغب جيبوتي في أن تأخذ في اعتبارها تلك الفوائد التي تعود عليها نظير حجم الاستدانة الكبير للصين، وإنهاء العلاقة مع الأصدقاء القدامى الذين أمنوا البلاد، وإفزاع المستثمرين المحتملين. فهل سيحصل الشعب الجيبوتي على الرفاهية الاقتصادية والأمن إذا ما أقدمت الدولة على اتخاذ مثل تلك الإجراءات؟
AFP Photo/SIMON MAINA