هاجم المستشار الجديد للأمن القومي الأمريكي السيد/ جون بولتون، في أول خطاب رئيسي له والذي ألقاه يوم الاثنين الماضي من واشنطن، إحدى المؤسسات الدولية والتي لم تكن الولايات المتحدة جزءًا منها، حيث قال “لن نتعاون مع [المحكمة الجنائية الدولية]”، وأضاف قائلاً “ولن ننضم إلى المحكمة الجنائية الدولية”. ونعلن أن المحكمة الجنائية الدولية لا تعني لنا أي شيء.

وقد أثار هذا التصريح الدهشة والحيرة، لأن الرؤساء السابقون، إذا ما عدنا إلى “جورج دبليو بوش”، كانوا متعاونين من وقت لآخر مع المحكمة – والتي تأسست في العام 2002 لاستجواب مجرمي الحرب من جميع أنحاء العالم وتقديم مرتكبي جرائم الحرب إلى العدالة – حتى وإن لم يصدقوا على نظام روما الأساسي.

بسبب الاختلاف الكبير بين ما يركز عليه “بولتون” في خطاب والتوجيه المتصاعد من رئاسة ترامب، ذكر “بولتون” لاحقًا في خطابه أبرز جملة فيه، حيث قال بأن الولايات المتحدة الأمريكية “لا تعترف بصلاحية أعلى من الدستور الأمريكي”، وتبرز أهمية الجملة في أنها تمس صميم الجدال واسع النطاق حول العلاقات الدولية وطبيعة القيود التي يمكن فرضها على الدول العظمى.

وفي جوهر الأمر، يبدو أن “بولتون” قد اعتقد أن الولايات المتحدة بفضل قوتها العسكرية الكبرى لها الحق أن تعيش في عالم بدون قواعد، غير أن معظم الشعب الأمريكي لن يقبل بهذا العالم، وسيكون الشعب الأمريكي واحدًا من أبرز ضحايا هذا العالم، ويكفيهم مشاهدة الوضع في الشرق الأوسط، لأن الشرق الأوسط أفضل من يعلم الخطر الشديد الذي يمثله عالم بدون قواعد عالمية والسبب أنه لا توجد منطقة عانت من ويلات غياب هذا القانون مثلما عانت دول الشرق الأوسط.

وبالنظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، يحمل الهجوم على المحكمة بعض المنطق. فلقد استشاط “بولتون” غضبًا لأن المحكمة ألمحت إلى أنها قد تبدأ في فتح التحقيق في مزاعم جرائم حرب يُدعى أن جنود أمريكيين ارتكبوها في أفغانستان، ومن هنا أصبحت المسألة أكثر تعقيدًا.

إن وجود عالم القانون الدولي رفيع المقام أمرًا لا بد منه في ظل سياسة العلاقات الدولية التي تتسم بالواقعية والتشدد. ومن المعلوم أن حجر الزاوية في تلك العلاقات الدولية هو أن الولايات المتحدة، وفي ظل قواتها العسكرية المهولة والتي تسمح لها بأن تكون شرطي هذا العالم، لن تقبل بسهولة أن تكون دولة خاضعة، فلا يوجد قوة عسكرية قادرة على القيام بمهام قوة الشرطة، أو، كما قال الشاعر الروماني “جوفينال”، حراسة الحراس.

وظهرت تلك المشكلة عندما تخطت الولايات المتحدة الأعراف الدولية كما حدث فعليًا أثناء “الحرب على الإرهاب”. فعندما تولى باراك أوباما” رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية قام بحظر استخدام التعذيب من جانب أي وكالة حكومية لينهي بذلك ما يسمى بأسلوب “الاستجواب المعزز” المُستخدم في معتقل جوانتانامو وأماكن أخرى. ورغم أن “أوباما” كان راغبًا في حظر هذا الأسلوب، إلا أنه رفض مقاضاة أي مسؤول في حقبة الرئيس “جورج بوش الابن”. ولكن عندما يتعلق الأمر بحماية المواطن الأمريكي، فلا مناص أمام الولايات المتحدة سوى اتباع هذا المنهج.

وهذا ما يرغب “بولتون” في فعله وهو حماية شعبه. غير أنه – إذا صحت المزاعم – يحمي أسوأ ما في شعبه وهو الأمر الذي سيعارضه جُل الشعب الأمريكي.

وبالنظر إلى دول الشرق الأوسط، يبدو الوضع أكثر اختلافًا. فلو تمكنت المنطقة فيما مضى من إنشاء قوة خارج حدودها ووضع قوانين لغيرها من الدول، لكانت دول الشرق الأوسط في الوقت الحالي أكثر إدراكًا للآثار المترتبة على وجود عالم بدون قواعد نافدة.

إن غزو العراق كانت نتيجة الفشل في إجبار الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة على الالتزام بالقوانين الدولية. ويستمر احتلال فلسطين بسبب الفشل في إجبار إسرائيل على الالتزام بالقوانين الدولية، ويستخدم نظام الأسد الأسلحة الكيميائية بصورة متكررة في سوريا نتيجة الفشل في إجبار هذا النظام على الالتزام بالقوانين الدولية.

وبالتالي لم تكن المشكلة في عدم وجود القوانين، بل في الافتقار إلى وسائل تفعيلها. ولكي ينشأ نظام عالمي حقيقي أساسه القانون، يتعين على الدول ولاسميا العظمى منها التخلي عن مقياس السيادة، فضلاً عن الاتفاق معًا على الالتزام بنفس القواعد مثلما يفعل غيرهم من باقي الدول.

وحتى الآن، يبدو أن هذا الأمر غير مقبول لكل من الولايات المتحدة الأمريكية أو غيرها من الدول العظمى كروسيا والصين والهند (فلم ينضم أي منهم إلى المحكمة الجنائية الدولية). وفي حقيقة الأمر، نقل هجوم “بولتون” على المحكمة الجنائية الدولية النقاش إلى وجهة مختلفة، حيث أن التداعيات طويلة الأمد للقضاء على مؤسسات كالمحكمة الجنائية الدولية يمثل تراجعًا دوليًا في عالم تضع فيه القوى العظمى قوانينه.

إن هذا التراجع ليس طريقا لحلول السلام – والحروب التي دارت رحاها في أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر شاهدة على ذلك – لكنها طريقا لعالم من الحلفاء المتغيرين دومًا والحرب غير المتكافئة، وهذا هو الواقع الذي يعيشه الشرق الأوسط في الوقت الحالي.

ويحدث هذا التراجع أيضًا في أي مكان آخر، والخاسر في هذا الأمر هما أمريكا والغرب. فعندما ضمت روسيا إلى أراضيها أحد أقاليم أوكرانيا وتحدت العالم لإنهاء الأمر، أو عندما غيرت الصين، خطوة تلو الأخرى، من قواعد اللعبة في بحر الصين الجنوبي، كانت كلتا الدولتين تتخذا تلك الخطوات دون مراعاة القواعد العالمية استنادا الى قاعدة سيادة الاقوى.

ولن يحبذ الأمريكيون مثل هذا العالم لسببين، أولهما، رؤية الدول صغيرها وكبيرها وهي تمارس نفس القواعد، وثانيًا، الواقع البشع بسبب تغير موازين القوى. قد لا ترغب أمريكا في الوقت الحاضر أن تكون قوتها مقيدة – ولكن هناك يوم لن تتمكن فيه قوتها من تقييد الآخرين.

Win McNamee/Getty Images/AFP

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: