يبدو أن الرئيس دونالد ترامب يرى أن السياسة الخارجية الأمريكية برمتها لا تعدو أن تكون قضية محلية. ولعلَّ الرئيس الأمريكي، منذ يومه الأول في البيت الأبيض، وهو يركز أنظاره على ولاية جديدة، ما جعله يصب كل اهتمامه في الشأن الشرق الأوسطي لا لشيء سوى لكسب أصوات اليهود الأمريكيين وحصد التبرعات استعداداً للحملة الانتخابية القادمة في 2020. أما ما تبقى، فقد تركه ترامب لواشنطن، والتي من جهتها حافظت على السياسة الخارجية التقليدية للولايات المتحدة، رغم مزاعم الملاحظين والمحللين داخل البلاد وخارجها والذين يرون عكس هذا الأمر.
ومن هذا المنطلق، جعل ترامب الصداقة مع إسرائيل محور سياسته الخارجية، وأصبح هو الرئيس الأمريكي الوحيد الذي زار الجدار الغربي في القدس خلال ولايته الرئاسية، وأول رئيس يعترف بهذه المدينة كعاصمة لإسرائيل. وبما أن حب إسرائيل يعني كراهية إيران، فإن الرئيس الأمريكي تبنى هذا الموقف كذلك بكل سرور.
لكن رغم المظاهر والتمثيليات المسرحية، لم يغير ترامب بشكل حقيقي السياسة الخارجية التقليدية للولايات المتحدة، وهي سياسة ثابتة في واشنطن لا تختلف باختلاف الحزب الحاكم.
فعندما أعلن عن “اعترافه” بكون القدس عاصمة لإسرائيل، استخدم ترامب عمداً كلمة “القدس” بشكل مبهم ودون تحديد ما إذا كان يعني “قدساً موحدة” كما ترغب إسرائيل، أو “القدس الغربية” فقط، وهو ما لن يخالف الإجماع الدولي على الاعتراف بأن المدينة هي عاصمة دولتين: القدس الغربية لإسرائيل، والقدس الشرقية لفلسطين.
وقد أدركت إسرائيل أن هذا النوع من الاعتراف لم يكن بمثابة تحول جذري في الموقف الأمريكي، لكن من وجهة نظرها، يبقى هذا الاعتراف مكسباً لها، حتى وإن اقتصر على إحداث ضجة دبلوماسية.
وعلى نحو مماثل، تظاهرت القوى المناهضة لترامب في العالم بأن الرئيس الأمريكي قد سلم المدينة بأكملها للإسرائيليين. وقد أطلقت هذه القوى حملة مضادة لإعادة تأكيد أن القدس الشرقية ستظل عاصمة للدولة الفلسطينية، وهو موقف لا يتعارض بالضرورة مع “اعتراف” ترامب.
وكما أثار ترامب ضجة بموقفه الغامض تجاه القدس، فإنه كذلك أحدث صدىً واسعاً بموقفه المبهم تجاه إيران. فمن جهة، لم يصادق ترامب على “قرار الكونغرس” غير الهام بشأن التزام إيران، لكنه لم يصعد أبداً من موقف واشنطن تجاه “خطة العمل الشاملة المشتركة”، والمعروفة ايضاً بمسمى “الاتفاق النووي الإيراني”. فلو أراد ترامب إلغاء الاتفاق، كان سينهي الإجماع الدولي اللازم في مجلس الأمن، وبالتالي سيفعل المواد التي تفرض تلقائياً العقوبات الدولية على طهران.
فعلى الرغم من أن ترامب أعطى الانطباع بأنه اعترف بالقدس كاملة وموحدة كعاصمة لإسرائيل، وأنه قد وجه “إنذاراً لإيران”، يتضح من خلال النظر عن كثب لسياسته أنها حتى هذه اللحظة لا تعدو كونها تمويهاً. فهو يريد من المصوتين اليهود الأمريكيين أن يعتقدوا أنه صديق حميم لإسرائيل، وبالتالي يستحق دعمهم، لكنه أيضاً لا يريد ارتكاب كارثة سياسية أو الابتعاد عن السياسة الخارجية التقليدية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
لكن ما يختلف به أسلوب ترامب عن الإدارة السابقة هو مقاربة عدم التدخل في قضايا من قبيل الصراع السوري والعراق واليمن. حيث إن ترامب يثق في جنرالاته، وعلى رأسهم وزير الدفاع جيمس ماتيس. وبناء على ذلك، فإنه قد عهد إلى وزارة الدفاع بتنفيذ سياسة واشنطن في الشرق الأوسط.
وإذا كان ماتيس قد اتبع مخطط الحرب ضد “داعش” الذي يرجع إلى فترة ما قبل ترامب، فإنه أعاد النظر في المهمة بحيث يتم منع كافة الفاعلين غير الحكوميين، بما في ذلك الميليشيات التابعة لإيران، من إعادة احتلال الأراضي المحررة في سوريا. وقد وضعت المهمة الجديدة المناهضة لتنظيم “داعش” الولايات المتحدة في مواجهة مع إيران وحلفائها، معرقلة بذلك الجهود الإيرانية لربط البلاد بالعراق وسوريا ولبنان.
ومع وجود ترامب على رأس الهرم السياسي في الولايات المتحدة، فإن أيام التدخل المكثف للبيت الأبيض في الحملات العسكرية، والمطالبة أحياناً بالترخيص لشن غارات جوية على “داعش” في العراق وسوريا، قد ولت دون رجعة.
هذا وقد قام ترامب بحماية الجيش الأمريكي من خلال انتهاج السرية. فقد توقف البنتاغون عن إعلان مستويات قواته في مناطق الصراعات، ما ساهم في نزع الطابع السياسي عن عدد القوات والموارد التي تتطلبها المهمات في الشرق الأوسط.
لكن أسلوب ترامب في السياسة الخارجية بعيد كل البعد عن الأفكار المتطرفة التي وعد بها خلال حملته الانتخابية. فقد اتضح أن ترامب لا يملك “خطة سرية” لإسقاط “داعش” في ظرف 30 يوماً. كما أنه قد سمح للخطة الحربية ضد “داعش” التي وضعتها الإدارة السابقة بأن تأخذ مجراها، تاركاً المسؤولين المتمنعين في مناصبهم. إضافة على ذلك، فإن ترامب، وعلى عكس ما وعد به أنصاره، لم يمزق حتى هذه اللحظة الاتفاق النووي الإيراني، حيث أفادت تقارير بأنه يحث الأوروبيين الآن على التوقيع على خطته فقط من أجل “تحسين” خطة العمل الشاملة المشتركة.
ومن خلال أسلوب عدم التدخل، فوض ترامب فعلياً السياسة الخارجية لواشنطن، محتفظاً بهامش يسمح له بممارسة ألاعيبه “التجارية” التي يعتقد أنها ستسمح له بالفوز بولاية ثانية في عام 2020.
أما بالنسبة لحلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فإن سياسة ترامب توضح أنه رغم أن مخططات الهواة من قبيل “المساومة الكبرى” مع إيران، والأوهام مثل تفويض الحفاظ على الاستقرار في سوريا لروسيا، قد وصلت إلى نهايتها، لا يجب النظر لترامب كمغامر أو مقامر، وذلك رغم خطاباته الرنانة.
فالرئيس الأمريكي قد يقول الكثير من الأشياء التي يظن أنها ستساعد على إعادة انتخابه في 2020، لكن واقع الحال يقول أن السياسة الخارجية الأمريكية في عهده ظلت تلك السياسة الأمريكية التقليدية المبنية على الحفاظ على المصالح الوطنية، وأولها الأمن، ثم تسهيل التجارة وتدفق الموارد الطبيعية. وبالتالي، ستسير علاقات واشنطن مع أصدقائها وأعدائها على نفس المنوال.
AFP PHOTO / Brendan Smialowski