بالنسبة للعديد من الاقتصادات في جميع أنحاء العالم، فإن عام ٢٠١٨ كان بعيداً كل البعد عن الانسياب بهدوء وسلاسة. ففي حين أن الاقتصاد الأمريكي لا يزال قوياً، من خلال التخفيضات الضريبية والاقبال السريع على الشراء قبل بدء حملة التعريفة العالمية للرئيس دونالد ترامب، فإن الأسواق الناشئة تكافح من أجل الصمود.
“من تركيا إلى جنوب إفريقيا”، راقبت أقوى الاقتصادات الرئيسية احتياطاتها من العملات الأجنبية، وارتفاع التضخم وتراجع العملات. أما إسرائيل وعلى الرغم من صغر حجمها ومكانتها الاقتصادية في الترابط والحيوي بين الشرق والغرب، فقد حققت نجاحًا كبيرًا في هذه الظروف القاسية. غير أن الوضع قابل للتغيير ويكشف تغيير حديث في البنك المركزي للبلاد عن ذلك الصدع.
في خلال هذا الشهر، قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عدم تجديد ولاية كارنيت فلوغ، محافظ البنك المركزي، والتي تنتهي في شهر نوفمبر. ووفقًا لما تداولته وسائل الإعلام الإسرائيلية، سئم نتنياهو ووزير ماليته، موشيه كاهلون، من فترة عمل فلوغ في البنك المركزي وتعليقاته العامة بشأن معالجة وزارة المالية لأزمة الإسكان المزمنة في إسرائيل وغيرها من تحديات تكلفة المعيشة. في حين يحبذ نتنياهو وكاهلون التخفيضات الضريبية ، إلا أن”فلوغ” يفضل الاستثمار بشكل منتظم في البنية التحتية ورأس المال البشري بشكل خاص.
وسيحلّ مكانه أمير يارون، الأستاذ في كلية وارتون لإدارة الأعمال بجامعة بنسلفانيا، صاحب المؤهلات المهمة في مجال الاقتصاد الكلي في الولايات المتحدة، على الرغم من قلة خبرته في المناخ الاقتصادي العدائي السائد في إسرائيل. ويخضع التعيين في الوقت الحالي للفحص من قبل لجنة حكومية ومن المتوقع أن يمر دون عقبات.
ولد يارون ونشأ في إسرائيل ولكنه قضى معظم حياته المهنية في الولايات المتحدة، الأمر الذي يثير التساؤلات حول معرفته العملية للاقتصاد الإسرائيلي. وبالنظر إلى أن نتنياهو فقد استبدل “فلوغ” الحاكم الصريح بـ”يارون” ، ويفترض أن يصمد يارون ويلتزم بخط رئيس الوزراء. بخلاف ذلك، فما كان قد تم اختياره لهذا المنصب الجوهري فيما يدخل البلد عامًا انتخابيًا. وبعيداً عن ضغوط تكلفة المعيشة بالنسبة للإسرائيليين العاديين ، يبقى السؤال الذي يدور في أذهان كثير من الاقتصاديين هو ما إذا كانت البلاد قادرة على تحمل ركود عالمي آخر، نظرياً فقد تكون الإجابات متفاوتة.
في ظل المراقبة عن كثب التي يمارسها ستانلي فيشر، الاقتصادي في البنك الدولي والنائب السابق لرئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الذي انتقل إلى إسرائيل لقيادة البنك المركزي في عام ٢٠٠٥، تجنبت تل أبيب أغلب التداعيات الكارثية الناجمة عن الأزمة المالية العالمية عام ٢٠٠٨. فقد نما الاقتصاد على مدى العقد الماضي، مدفوعاً بقطاع تكنولوجي قوي، وصناعة عسكرية توسعية، وفائض في الميزانية، وعجز منخفض. المشكلة الآن بالنسبة لإسرائيل هي كيف يتدفق النمو عبر الاقتصاد. سجلت أحدث أرقام الناتج المحلي الإجمالي نمواً بنسبة ٣،٧ في المائة هذا العام و ٣،٦ في المائة لعام ٢٠١٩، مع ارتفاع تضخم أسعار المستهلكين بنحو ١،٢ في المائة. وستكون إحدى أولى مهام يارون هي كيفية التعامل مع ارتفاع تضخم الأصول، وتحديدًا في سوق الإسكان، والركود في الأجور.
ويتزامن قراره مع عدة عوامل ومنها على سبيل المثال تراجع سوق الإسكان والإيرادات الضريبية التي تشهد تراجعاً بطيئاً كما بدأ العجز في النمو. ووفقاً للصحيفة المالية اليومية”جلوبس”، سجلت إسرائيل مؤخراً إحدى أشد الانخفاضات في حصة الناتج المحلي الإجمالي التي يتلقاها الموظفون بأجر بسبب ركود نمو الأجور. ولا يبدو أن خطة كاهلون لزيادة المعروض من المساكن وإخضاع أسعار المساكن للسيطرة تعمل حيث أن الأرقام التي صدرت عن المكتب المركزي للإحصاء في شهر أغسطس تبيّن أن مشتريات المنازل الجديدة تراجعت بنسبة ٢٢ بالمائة في النصف الأول من عام ٢٠١٨، كما أن بناء المنازل الجديدة سجل هبوط يكاد أن يكون غير مسبوق حيث أصبح الناس غير قادرين على شراء المنازل.
وبينما ركز البنك المركزي على إبقاء معدلات التضخم منخفضة، فإن تضخم الأصول في سندات الشركات وأسعار المساكن آخذ في الارتفاع. وستكون كيفية تعامل محافظ البنك المركزي المقبل مع هذا التحدي سمة مميزة لولايته. في حين أن احتجاجات العدالة الاجتماعية التي اجتاحت البلاد في عام ٢٠١١ قد تبدو ذكرى بعيدة، فلا تزال الاهتمامات الجوهرية للتحركات على مستوى البلاد ملحة ويمكن أن تشتعل في أي وقت. وبدأت تلك الاحتجاجات في الخيام في وسط تل أبيب بينما خرج الشباب إلى الشوارع يشتكون من عدم وجود مساكن ميسورة التكلفة. ويبقى احتمال شراء منزل بمثابة السفر إلى القمر بالنسبة لغالبية الشباب الإسرائيلي.
إن قرار نتنياهو بزعزعة البنك المركزي قبل الانتخابات المهمة يسلط الضوء على حساسية قضايا تكلفة المعيشة بين الناخبين. وكانت العديد من تعليقات فلوغ حول الاقتصاد ورأس المال البشري صحيحة وتحتاج إلى المعالجة. على سبيل المثال: في قطاع التكنولوجيا في البلاد لفتت التقارير الأخيرة الانتباه إلى هجرة ذوي العقول النابغة. من المرجح أن يكون أي من رواد التكنولوجيا أو من رواد الشركات المبتدئة، يبحث عن وسيلة للانتقال إلى وادي السليكون فالي أو إلى برلين.
قد يكون حل هذه المسألة خارج نطاق سلطة محافظ البنك المركزي، لكن من الواضح أن الأعمدة الاقتصادية التقليدية في إسرائيل تتآكل ببطء لأن جودة الحياة في البلاد آخذة في التناقص، والحياة نفسها أصبحت مكلفة جداً. وعلى سبيل المثال، تصنف تل أبيب كواحدة من أغلى عشر مدن في العالم ( مثل مدينة سيدني حسب الاستطلاعات) ومع ذلك فلا تكاد أن تظهر ضمن أفضل ٥٠ مدينة لجودة الحياة حسب مسح ميرسر لجودة المعيشة.
هذه هي أنواع القضايا التي تطغى بسرعة على المخاوف السياسية في إسرائيل. ولكن إذا لم يلتزم محافظ البنك المركزي المقبل بتحذيرات سلفه ، فإن اقتصاد إسرائيل يمكن أن يكون له تأثير كبير في ظهور ركود عالمي، ولن تغير السياسة الأمنية هذا الواقع.
AFP PHOTO/JACK GUEZ