في فيلم جيمس كاميرون الذي يتنبأ بالمستقبل على نحو مثير للفضول «ذا ترميناتور» الصادر عام 1984، أُرسِل سايبورغ قاتل من عام 2029 بواسطة «سكاي نت»، وهو نظام ذكاء اصطناعي للدفاع العسكري أصبح أكثر ذكاءً من مخترعيه البشر وسيطر على العالم.
تتمثل مهمة «ذا ترميناتور»، الذي يجسده آرنولد شوازينجر، في قتل النادلة سارا كونور البالغة من العمر 19 عامًا قبل أن تتمكن من إنجاب ابنها جون الذي سيصبح فيما بعد زعيمًا لحركة المقاومة التي ستهزم «سكاي نت» وتستعيد التفوق البشري.
رغم المتعة الهائلة التي قدَّمها الفيلم على الشاشة الكبيرة (في عام 1984، كنا ما نزال على بعد عقد من ظهور البث عبر الإنترنت)، بدت آنذاك فكرة التعاون بين الشبكات العصبية الجديدة فائقة الحساسية التي ابتكرها البشر وطورت قدرة على الفكر المستقل فيما بعد، مثيرة للضحك.
لكننا في عام 1984، لم يكن لدينا كذلك وسائل تواصل اجتماعي، ولا هواتف ذكية، ولا ساعات ذكية، ولا سيارات ذاتية القيادة على وشك الظهور في كل مكان، ولا أنظمة تحديد مواقع عالمية في كل جهاز تتبع كل تحركاتنا، ولا أليكسا تستمع إلى كل محادثاتنا، ولا مراقبة في كل مكان، ولا جوجل يسجل نشاطنا على الإنترنت، ولا أمازون يتتبع كل عملية شراء نجريها — والأهم من ذلك، لم يوجد إنترنت تتعاون من خلاله كل هذه الأنظمة الرقمية.
لقد حدث كل ذلك بسرعة هائلة، ولكن بسلاسة شديدة أيضًا لدرجة أننا لم نلاحظ حدوثه في الواقع. وإنما تقبّلنا بحماس كل تطور رقمي جديد على أنه مجرد وسيلة راحة أخرى، ولم نر الصورة الأكبر.
ففي عام 2022، صار «سكاي نت» موجودًا بالفعل في صورة شبكة رقمية ضخمة من الأشياء المترابطة التي صرنا كلنا عالقين فيها دون سبيل للخلاص.
ولكن هذا لا يعني توقع رؤية سايبورغ قتلة يسافرون عبر الزمن سبع سنوات إلى الماضي، فنظام «سكاي نت» يبلي بلاءً حسنًا؛ إذ تسبب دون أن يلاحظه أو يردعه أحد في ضرر أكبر بكثير من ترميناتور الذي يؤدي شخصيته شوازينجر، وذلك لسبب بسيط هو أن هذا النظام نجح في إنهاء علاقتنا مع الحقيقة.
عندما ظهر الإنترنت، كان موضع ترحاب باعتباره اختراعًا من شأنه أن يجمع العالم معًا ويوحد الشعوب والثقافات المتباينة.
وقد نظر البريطاني تيم بيرنرز لي، الذي أطلق في عام 1989 العنان لإمكانات الإنترنت من خلال اختراع الشبكة العنكبوتية العالمية، وهي منصة برمجيات الخلفية، إلى الويب على أنه “أداة للديمقراطية والسلام”. يا للسخرية!
قيل لنا إن المعرفة سوف تتدفق مثل الماء، فتظهر بفضلها سلالة خارقة من البشر المسلحين بالحقيقة والمستعدين لتجاوز العقبات التي وضعها الإنسان في صورة حدود وجنسيات واختلافات ثقافية.
قيل لنا أيضًا أنه لن يكون هناك حروب أخرى، لأن الناس لن ينخدعوا بعد ذلك بدعاية المصالح الخاصة. وإنما سيكونون قادرين على رؤية حقيقة مَن يصورهم القادة دعاة الحرب على أنهم أعداء لهم، وهي أنهم بشر مثلهم يحاولون شق طريقهم في العالم.
ولكن وسائل التواصل الاجتماعي تفيض حاليًا باللقطات والصور والمزاعم بشأن الأحداث الجارية على الحدود الشرقية لأوروبا. أما وسائل الإعلام الرئيسية، فتضيف ملحوظة عند تقديم هذه المزاعم بأنها “لا يمكن التحقق منها بشكل مستقل”، الأمر الذي لا يؤدي سوى إلى استمرار الخرافات.
من الواضح أن المزاعم بأن الحرب خدعة هائلة غير صحيحة، لكنها منتشرة على نطاق واسع ويصدقها مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي.
أوكرانيا تطور سرًا أسلحة بيولوجية؟ خطأ.
صور لمزارعين يسحبون دبابات وطائرات روسية بالجرارات؟ صور قديمة مأخوذة في عروض جوية وما شابه.
لذا شعرت شبكة بي بي سي، التي كانت ذات يوم من بين أكثر وسائل الإعلام العالمية موثوقية (ورآها عشاق المؤامرة وسيلة إعلام رئيسية)، بالحاجة إلى تعيين «مراسلين متخصصين في المعلومات المضللة» وتكليفهم بالكشف عن الأخبار المزيفة.
ولكن عند وصول هؤلاء المتخصصين إلى استنتاجات مثل «أحد المصادر الرئيسية للأخبار المزيفة على تويتر ينتمي إلى شبكة حسابات الكرملين على تويتر»، فمن المؤكد أن نسبة كبيرة من مستخدمي تويتر ستنتابهم الشكوك.
إن وسائل الإعلام الرئيسية، التي كانت في الماضي تمثل نقطة مرجعية لمعرفة الواقع، تخوض معركة خاسرة للحفاظ على هذه المكانة العالية.
فبفضل الإنترنت، يتمتع كل شخص بصوت ومنصة، ومن ثم فإن الحقيقة لم تكن مستعصية أبدًا كما هي الآن، ولم تُفقَد أبدًا الثقة في وسائل الإعلام الرئيسية كما فُقِدت حاليًا. ولم يؤد «الجدل» الجماعي إلى اجتماعات رصينة للعقول، وإنما إلى ترسيخ مواقف عززها طوفان هائل من المعلومات. فنحن، على وسائل التواصل الاجتماعي، نتابع المستخدمين المشابهين لنا في التفكير، ونقرأ الموضوعات التي تتوافق آراء مؤلفيها مع آرائنا، وبذلك نفصل أنفسنا عن وجهات النظر الأخرى.
الحقيقة مهمة، وإمكانية الوصول إليها تساعدنا على اتخاذ قرارات مستنيرة بشأن حياتنا — وفي بعض الأحيان، حياة ملايين الأشخاص الآخرين — بناءً على الواقع وليس الخيال.
والمشكلة في عدم معرفة ما هو حقيقي هي أننا في نهاية المطاف نلجأ إلى ما نعتقد أنه حقيقي، أو الأسوأ من ذلك، ما نود أن يكون حقيقًا. في كلتا الحالتين، هذا يجعلنا عرضة للتلاعب بشكل هائل.
وقد رأينا هذا على نطاق هائل في «الجدل» العالمي الدائر حول سلامة لقاحات كوفيد -19 وفعاليتها، الأمر الذي تسبب في وفاة عشرات الآلاف لمجرد أنهم لم يتمكنوا من فصل الحقيقة عن الخيال.
تُعَد «ثقافة الإلغاء» وليدة وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا، وهي يد الرقابة المهلكة التي وضعت على رقاب العديد ممن يجرؤون على قول الحقيقة (آخرهم مؤلفة سلسلة هاري بوتر، جيه كيه رولينغ، بسبب موقفها من حقوق النوع الاجتماعي).
لم تكن الحقيقة أبدًا بهذا القدر من الأهمية، ولا الصعوبة في الوصول إليها، كما هي الآن في عام 2022.
وفي عام 2029، لن يحتاج نظام «سكاي نت» إلى ابتكار السفر عبر الزمن وإعادة إرسال «ترميناتور» لحماية مصالحه؛ فلا توجد بيننا سارا كونور، وبدلًا من تنظيم أي نوع من المقاومة، أصبحنا متعاونين بإرادتنا في تدمير الواقع وموت الحقيقة.
جوناثان جورنال صحفي بريطاني عمل سابقًا مع صحيفة التايمز، وقد عاش وعمل في الشرق الأوسط، وهو الآن مقيم في المملكة المتحدة.