بعد مضي أسبوع على الغزو الروسي لأوكرانيا لايزال العالم يحاول فهم ما يجري على الساحة السياسية.

ونظر المحللون الذين عجزوا عن فهم كيف انقلب الوضع الراهن في القارة الأوروبية بصورة سريعة وشاملة إلى سوريا، التي تمثل آخر تدخل عسكري كبير لروسيا، بحثًا عن مفاتيح حل لفهم ما يجرى. وعليه، فقد ربطوا توغلات موسكو في كلا البلدين بنظرية تنص على أن التدخل الروسي في سوريا قد مهد الطريق لغزو أوكرانيا.

ولتلك النظرية جانبان، الأول هو تقاعس باراك أوباما حيال استخدام نظام الأسد للأسلحة الكيماوية في عام 2013، عندما تجاوز الأسد “الخطوط الحمراء” التي وضعها أوباما دون أن يرى أي عواقب، وقد أضعف ذلك التقاعس من صورة أمريكا أمام العالم، وأفضى إلى ضم بوتين لشبه جزيرة القرم بعد مضي ستة أشهر.

ويتمثل الجانب الثاني في محاولة روسيا فعل نفس ما فعلته في سوريا، بعد أن رأت فرصة لإعادة صياغة السياسة السورية من خلال الوسائل العسكرية. حيث شرعت بتهديد أوكرانيا على أمل التنمر على الحكومة لتقديم تنازلات، وبعد ذلك، عندما لم تفلح محاولة التنمر، قامت بشن هجوم واسع النطاق بهدف تغيير النظام.

وتكمن مشكلة هاتين النظريتين في أنهما تتجاهلان جوانب من تاريخ روسيا الحديث لضمان نجاح النظرية. فهناك صلة بين المهمات العسكرية في سوريا وأوكرانيا، لكنها ليست هي التي عادة ما تُتهم بها موسكو.

وفي الحالة الأولى، لا يوجد مقارنة بين قيام الرئيس الأميركي بوضع “خطوط حمراء” لسوريا والسيناريو الافتراضي بإصدار رئيس أمريكي “خطوطًا حمراء” لروسيا بشأن شبه جزيرة القرم. فالتهديدات ليست متشابه، ففي الحالة الأولى، إذا كان أوباما قد قرر رسم تلك الخطوط الحمراء، فإن أقصى ما يمكن عمله هو محاولة قطع رأس نظام الأسد، على سبيل المثال من خلال قصف القصر الرئاسي في دمشق. لكن رسم “الخطوط الحمراء” على روسيا بالقوة العسكرية أمر مختلف: فهو سيؤدي حتماً إلى حرب بين خصمين مسلحين نووياً.

وفي الحالة الثانية، فإن فكرة شعور بوتين أن أفعاله في سوريا أعطت الضوء الأخضر لغزو أوكرانيا تتجاهل عقدًا من العمل العسكري على طول الحدود الروسية، فقد بنى بوتين سمعته كسياسي صارم في حروب القوقاز، حيث كانت حرب الشيشان أول صراع يشارك فيه، منذ اللحظة التي أصبح فيها رئيسًا تقريبًا، وحربه السريعة في جورجيا عام 2008 والتي انتهت في خمسة أيام، هي تشبيه أفضل بكثير لتجربة غزو أوكرانيا أكثر من تشابهها بعمله العسكري في سوريا.

لم يكن التدخل الروسي في سوريا قد أقنع بوتين بأنه يستطيع إعادة ترتيب السياسة والتوجه المستقبلي للدول بالقوة، فقد كان يعرف ذلك بالفعل من تجربة جورجيا. لا، ما أثبتته سوريا هو أنه يمكنك فعل ذلك بشكل علني، وعلى مرأى ومسمع من العالم، ولن يهتم أحد بذلك.

وكان ذلك هو الدرس الكبير الذي تعلمته موسكو من سوريا: وهو أن النظام الذي تقوده الولايات المتحدة على الرغم من امتلاكه معدات عسكرية هائلة، لكنه ضعيف، ولا يملك الإرادة لفرض قوته.

ولعبت مشكلة “الخطوط الحمراء” لأوباما دوراً محورياً، لكنها كانت أيضًا نتيجة لجس بوتين المستمر لنبض الغرب، وشهيته للعمل العسكري، وقد تم تنفيذ المهمات في جورجيا وشبه جزيرة القرم بهدوء، فقد كانت الضربة في جورجيا خاطفة، وفي شبه جزيرة القرم، سمح توظيف “الرجال الخضر الصغار” بإمكانية الإنكار والتنصل، وهم الجنود الروس الذين لا يرتدون الرتب العسكرية.

لم يكن التدخل في سوريا على ذلك النحو، فقد تم بعد مضي 18 شهرًا من ضم شبه جزيرة القرم، وتم ذلك من دون وجود أي ذريعة، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تتحدى فيها روسيا الغرب علانية، وتستخدم معداتها العسكرية جهارا في محاولة للحصول على نتيجة مختلفة عما يريده الغرب، ومع ذلك فقد نجحت تلك المحاولة.

وما أثبتته روسيا في سوريا هو أن قصة فيتنام لم تكن دائمًا صحيحة، وتروي تلك القصة على أن القوى العظمى ستنهزم حتماً تحت ضغط حركات التمرد، فبدلاً من إثبات كونه فيتنام روسيا، أو أفغانستان ثانية بعد الهزيمة السوفيتية في الثمانينيات، كان التدخل الروسي في سوريا  انتصاراً قوياً لموسكو. وعملت روسيا على استقرار النظام وشكلت تحالفاً وثيقاً مع دمشق والذي سيستمر لعقود، فضلاً عن إعطائها نفوذاً على تركيا وإسرائيل وأوروبا، ومن وجهة نظر موسكو، كان ذلك انتصارا من عدة أوجه.

ولا شك في أن الرئيس الروسي يأمل أن يفعل الشيء نفسه في أوكرانيا، لإعادة ترتيب المحيط الروسي، بغض النظر عما يريده الغرب.

وهنا أصاب المحللون الذين يقولون أنه إذا لم يتم إيقاف بوتن في أوكرانيا فإن أوروبا بأسرها ستتعرض للتهديد، وما يسعى إليه بوتين هو قلب النظام الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي، لكن الأهم أنه لا يحاول تدميره، فالعالم الذي يتخيله بوتين ليس العالم الذي تضع فيه روسيا القواعد العالمية، بدل من الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، لكن ما يسعى إليه هو شيء أكثر محدودية، ولأنه بالتحديد أكثر محدودية، فمن المرجح حدوثه.

ما يسعى إليه بوتين هو وسيلة لتحدي الوضع الراهن بقيادة الولايات المتحدة من دون عواقب، أو على الأقل من دون تلك العواقب التي لا تستطيع موسكو تحملها.

ولا يعني غزو أوكرانيا أنه في غضون سنوات، سيكون هناك اتحاد سوفيتي جديد، يمتد عبر أوروبا الشرقية، لكنه يجعل احتمال نشوب حرب أخرى محدودة احتمالاً وارداً.

إذا أفلت بوتين من العقاب بعد غزو أوكرانيا وتغيير سياسات البلاد، وتمكن من تحمل عاصفة العقوبات، فسيجعل ذلك العديد من البلدان الأخرى المحيطة به أهدافًا له.

ما تعلمته موسكو في سوريا هو أن حماسة وهمة الغرب نائمة، ويحاول بوتين جس نبضها مرة ثانية، جهاراً نهاراً وأمام الملأ.

 

يعمل فيصل اليافعي حاليًا على تأليف كتاب عن الشرق الأوسط وهو معلق منتظم الظهور على شبكات الأخبار التلفزيونية الدولية، كما عمل لمنافذ إخبارية مثل “ذاقارديان” و “بي بي سي” ونشر تقارير عن الشرق الأوسط، وأوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: