الثقافة هي قلب المدينة، واللسان الراوي لقصتها.
يبلغ النظر إلى المدن العصرية على أنها مراكز ثقافية من الأهمية ما يدفع هذه المدن إلى استثمار مبالغ ضخمة وتطبيق أفكار مبتكرة أملًا في تتويجها «عاصمة الثقافة». عندما مُنِحت، على سبيل المثال، مدينة غلاسكو في اسكتلندا — مركز القوة الصناعية السابق — لقب «مدينة الثقافة الأوروبية» عام 1990، ساعد ذلك في الارتقاء بصورة تلك المدينة الكبرى من بقعة منكوبة بالفقر يمزقها العنف إلى مركز للفنون نابض بالحياة. وقد تبعت مدن أوروبية أخرى خطى غلاسكو، مستخدمةً لقب «عاصمة الثقافة» دافعًا لها لتحسين أوضاعها في حقبة ما بعد الصناعة.
لم يَخف أيٌّ من ذلك على قادة المدن المعاصرة في الشرق الأوسط وآسيا، الذين أدركوا أن جذب الزائرين لخوض تجربة بدلًا من مجرد قضاء عطلة هو مفتاح النجاح. لكن على عكس بعض المدن الأوروبية، التي سمحت بتلاشي مزايا الوجود في دائرة الضوء الثقافية العالمية، أدرك أولئك القادة أنه للحفاظ على ذلك الزخم، ينبغي عليهم إعادة الابتكار. فخاضت سنغافورة وهونج كونج دورات من الاستثمار الثقافي للحفاظ على أهميتهما وجاذبيتهما للزائرين. ولعل استضافة دبي لمعرض إكسبو 2020 أكثر الأمثلة وضوحًا على إدراك مدينة حاجتها إلى إعادة الابتكار. فبعد الانتكاسات الناجمة عن الأزمة المالية العالمية وجائحة كوفيد-19، يجيء معرض إكسبو لدفع المدينة إلى عهد جديد في توقيت ما كان ليكون أفضل من ذلك.
بالرغم من وجود مُنتقِدين لمبادرات «العاصمة الثقافية»، فإن هذه المبادرات تساعدنا في اكتشاف مدن ربما لا نعلم عنها شيئًا، ومن ثم التحلي بتقدير لم يكن لدينا من قبل لإرثها الثقافي. جرى تتويج عاصمة الثقافة العربية سنويًّا منذ عام 1996، وكانت إربد في الأردن المدينة المختارة لعام 2021، ومدينة الكويت لعام 2022، وطرابلس في لبنان عام 2023. أعدت هذه المبادرة جامعة الدول العربية في إطار برنامج العواصم الثقافية التابع لمنظمة اليونسكو بهدف تعزيز الثقافة العربية والاحتفاء بها، وتشجيع التعاون، وبناء جسور التفاهم بين الثقافات.
لكن ما المعايير المؤهلة لأن تصبح المدينة «عاصمة الثقافة»؟ وما الثقافة تحديدًا؟ هل هي الطقوس؟ الأزياء؟ الفنون والحِرف اليدوية؟ هل تستمد تعريفها من الناس، والتاريخ، والمباني، والعمارة؟ تُعرِّف منظمة اليونسكو الثقافة بأنها مجموعة السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميّز مجتمعًا بعينه أو فئة اجتماعية بعينها، وهي لا تشمل الفنون والآداب فحسب، وإنما تتضمن أيضًا أنماط الحياة وأساليب التعايش ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات. ولعل بإمكاننا إضافة مفهوم «الخلود» إلى هذا التعريف؛ فقد تسقط المدن، لكن إسهاماتها الثقافية يمكن أن تعيش طويلًا بعد زوال الأشخاص والقوى التي قدّمتها. لقد كانت حدائق بابل المُعلَّقة إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، وبالرغم من عدم وجود دليل مرئي على وجودها بالفعل، فما تزال أهميتها الثقافية قائمة. تقع حاليًا أطلال بابل نفسها — مدينة بلاد الرافدين القديمة — داخل حدود العراق، وتُعَد أحد مواقع التراث العالمي التابعة لليونسكو. وفي الفترة ما بين 626 و539 قبل الميلاد، كانت تلك المدينة عاصمة الإمبراطورية البابلية الحديثة، ومثّلت تعبيرًا عن الإبداع الذي بلغ أوجه في الإمبراطورية.
وبعد 2600 عام، تتجلى أهمية الاستثمار في المبادرات الثقافية التي تجمع الناس معًا في دبي. على مدار 170 عامًا، قدّمت المعارض العالمية منصة لعرض أعظم الابتكارات من شتى بقاع العالم. وفي عام 1851، أُقيم أول معرض عالمي في قصر الكريستال، مركز المعرض الكبير في لندن، حيث تم الاحتفاء بالعجائب الصناعية لعالم شهد تغيرًا سريع الوتيرة. أما معرض إكسبو دبي، وهو الأول من نوعه في الشرق الأوسط وإفريقيا وجنوب آسيا، فقد أقام مراسم افتتاحه المهيبة مؤخرًا تحت أكبر قبة غير مدعومة في العالم في ساحة الوصل. وجاء تصميمه مستوحى من خاتم ذهبي عمره 4000 عام تم اكتشافه في موقع ساروق الحديد الأثري الذي يعود إلى العصر الحديدي. لذا، يُعَد موضوع معرض أكسبو دبي وشعاره مثالًا رائعًا على إحياء الجذور الثقافية القديمة من خلال تقديم تاريخها من جديد على نحو مبدع للجمهور الحالي.
تُجدّد وجهات مثل دبي وسنغافورة وهونج كونج هوياتها الثقافية سعيًا منها للحفاظ على أهميتها في عالم سريع التغير يقوم غالبًا في وجوده على الإنترنت ويتزايد فيه قِصر عمر المشروعات الكبرى. لكن هل الأمر جدير بكل هذا العناء؟ هل بناء — وأحيانًا إعادة بناء — الثقافة في بيئاتنا الحضرية أمر مهم؟ وفقًا للدراسات الحديثة، الإجابة القاطعة هي «نعم»، ويرتبط ذلك ارتباطًا وثيقًا بالرخاء.
فتوصلت دراسة أجرتها اليونسكو عام 2016 إلى أن الثقافة لديها القدرة على جعل المدن أكثر ثراء وأمانًا واستدامة. كتبت إرينا بوكوفا، المديرة العامة السابقة لمنظمة اليونسكو في تصدير التقرير العالمي عن الثقافة: المستقبل الحضري: «تكمن الثقافة في قلب التجديد والابتكار الحضري». وأضافت أن التقرير قدّم «دليلًا ملموسًا على قوة الثقافة بوصفها أصلًا إستراتيجيًّا يفيد في إنشاء مدن أكثر شمولية وإبداعًا واستدامةً».
من المقرر إصدار مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء) في السعودية ثلاثة تقارير تركز على الثقافة هذا الشهر. تهدف هذه التقارير إلى تعزيز فهم كيفية تطور الصناعة الثقافية والإبداعية في المملكة العربية السعودية والمنطقة. وتتمثل إحدى النقاط التي سيُلقَى عليها الضوء في تزايد المشاركة الثقافية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مع وجود أعلى احتمالات النمو في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر. سيوضح التقرير أن دول الخليج قد تبنت نهجًا تنازليًّا في التطوير الثقافي. فهي تستثمر الأموال العامة بقوة في إنشاء المؤسسات وأطر العمل والبنية التحتية والأماكن لتمكين الصناعة الإبداعية ليس فقط من الوجود، وإنما من الازدهار أيضًا. في المقابل، اتبعت الدول العربية في الشام وشمال إفريقيا نهجًا تصاعديًّا مدفوعًا بمبادرات خاصة وشعبية ومشهد ثقافي حيوي. ويبدو أن كلا النهجين يحققان نجاحًا؛ إذ يذكر 90% من المجيبين على الاستبيانات أن المشاركة الثقافية مهمة لهم، بينما اعتبرها 75% أكثر قيمة من الخيارات الترفيهية الأخرى مثل مشاهدة التلفزيون أو ممارسة الرياضة.
إن هذه الرغبة المتزايدة لدى الناس للمشاركة في التجارب الثقافية يؤكد صحة نهج التعزيز الثقافي للمناطق الحضرية الذي من غيره ستتعرض هذه المناطق لخطر الزوال. كان أي بلاط ملكي في الماضي يتباهى بثرائه وأهميته الثقافية من خلال القطع الفنية والشخصيات الثقافية البارزة التي يضمها. أما الآن، فبلاط الرأي العام موجود على نطاق عالمي أكبر بكثير. وثمة علاقة جوهرية بين الثقافة والرخاء الاقتصادي حيث توجد حاجة إلى البذخ يعتمد فيها كلاهما على الآخر من أجل الحفاظ على أهمية المدينة الثقافية وأسر انتباه الجموع المرتحلة.
ريم تينا غزال رئيسة تحرير مجلة للفنون والثقافة ومراسلة حرب سابقة.