تشهد لبنان حالة من الفوضى، فالشوارع مكتظة بالمحتجين المنهكين من العيش في بلدٍ الأمل فيه مفقود. ومع ذلك، مازالت الحكومة على رأيها بأن سبب الاحتجاجات هو الأداء، وليس الإصلاحات الجذرية والفرعية التي يطالب بها المحتجون.
ولا يوجد في لبنان حكومة عاملة منذ استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري قبل شهرين تقريبًا. وقد رفض المتظاهرون البدائل التي اقترحها الرئيس “ميشال عون”، كما أعلن الحريري، والذي لا يزال رئيسًا للوزراء بصفة مؤقتة، عن كتلته البرلمانية، وأن المؤسسة السنية ستتوقف عن أداء مهامها ما لم يتمكن هو من تعيين حكومة جديدة من التكنوقراط وليس السياسيين. وسيصدر قرارًا بهذا الشأن يوم الخميس بعد تأجيله إلى يوم الاثنين بسبب الاحتجاجات العنيفة التي شهدتها البلاد لعدة أيام.
ورغم أن الوضع يبدو وكأنه خلاف داخلي إلى حد ما، فإنه يوضح الفجوة الشاسعة والمرعبة بين ما يريده المتظاهرون وما يمكن للجماعة الإسلامية المحلية وحزب الله والنخبة اللبنانية الحاكمة أن تقدمه – أو ستقدمه.
ودعا “ميشال عون” المتظاهرين لإرسال ممثلين عنهم للتباحث بشأن مطالبهم. كما حاول “عون” التأثير على المحتجين على أمل إقناعهم بالتفاوض. وإلى الآن، لم تجدي أي المحاولات نفعًا. ولا يريد المتظاهرون تدنيس حركتهم الشعبية بالجلوس مع نفس الحكام الفاسدين المطلوب عزلهم من مناصبهم.
وحاول حزب الله و”عون” والطبقة الحاكمة جاهدين لتصوير الانتفاضة اللبنانية على أنها احتجاج على سوء الحكم، غير أن المحتجين يصرون على أن ما حملهم على الخروج إلى الشوارع ليس عدم إجراء تعديل وزاري، ولكن لإحداث تغيير شامل، وتغيير “السلطة” – وهو مصطلح معناه الحرفي هو “من في سدة الحكم”، ويُترجم أيضًا إلى “النخبة الحاكمة”. وفي لبنان، يقصد المتظاهرون عزل المؤسسة السياسية القوية، والتي تضم “ميشال عون” والحريري وزعيم حزب الله “حسن نصر الله”، ورئيس البرلمان “نبيه بري” – واستبدالها بمسؤولين أكفاء غير حزبيين.
وإدراكًا لخطورة الموقف، حث حزب الله القيادة اللبنانية على الصمود وعدم الرضوخ لأي من مطالب المحتجين. غير أن الحريري تجاهل تلك النصيحة، ولو جزئياً على الأقل، لإظهار أنه خادم للشعب، ثم استقال من منصبه.
وأصبح “عون” في موقف سيء بسبب استقالة “الحريري”. وفي بادئ الأمر، حاول الرئيس “عون” أن يجعل من رئيس الوزراء كبش فداء. واعتقادا منه بأن رئيس الوزراء الجديد والحكومة الجديدة ستعيد الهدوء إلى الشارع اللبناني، اقترح “عون” اسم البرلماني السابق “محمد الصفدي” ليكون رئيسًا للوزراء – وهو الاقتراح الذي أغضب المحتجون. وتكرر الأمر نفسه مع “سمير العلمي”، ثاني ترشيحات “عون” – وهو ليس سياسيًا بل مقاولًا يُنظر إليه على أنه قريب من أعضاء المؤسسة.
إن استقالة الحريري لم تفشل في تهدئة الاحتجاجات فحسب، بل ألهبت حماسهم في كل مرة يظهر فيها الرئيس “عون” على شاشة التلفزيون لمناقشة من سيحل محل “الحريري”. ووفقًا للتقارير الواردة من الأيام الأولى للاحتجاجات، نصح “جبران باسيل” – صهر “ميشال عون”، وخلفه الطموح – الحريري بالصمود لأن الاحتجاجات ستتلاشى بسرعة.
غير أن الاحتجاجات لم تهدأ، وأدى ارتفاع معدلات البطالة إلى زيادة عدد المتظاهرين وغضبهم، مع مطالبتهم الرئيس والمتحدث باسم الرئاسة بالاستقالة من مناصبهم أسوة برئيس الوزراء.
وفي ظل النظام السياسي الطائفي في لبنان، والذي يمنح السلطة السياسية وفقًا للدين، تمكن “عون” و”باسيل” من طلب الدعم من الكنيسة المارونية، في الوقت الذي يحظى فيه “بري” بدعم الشيعة، وهو ما يجعل الحريري، وهو سني، مسؤولاً وحده عن جميع إخفاقاتهم.
وهذا ما يرفضه “الحريري”. وبات الموقف السني الآن ما بين أن يستقيل جميع القادة أو يبقى كلٌ في منصبه.
ومنذ اندلاع الاحتجاجات لأول مرة في نهاية سبتمبر، حاول حزب الله، والزعماء السياسيون الآخرون جاهدين استخدام الطائفية لشق صفوف المتظاهرين، على أساس أن هذا التكتيك كان يجدي نفعًا قبل ذلك.
غير أن هذه المرة مختلفة، حيث يمثل المتظاهرون جميع الطوائف، ونادرًا ما تظهر التنافسية الطائفية. وأصبحت سياسة الهوية أقل أهمية من السياسات التي تؤثر بنفس القدر على جميع الطوائف، ومنها – كيفية العيش في بلد تتدهور فيه قيمة العملة، وتنهار البنية التحتية والاقتصاد.
ومع استمرار السقوط الحر للاقتصاد اللبناني، فإن كل ما قدمه حزب الله و”ميشال عون” ورفقاؤه من النخبة الحاكمة هو جر البلاد إلى سياسة حافة الهاوية. وقد تنجح تلك السياسة إذا لم يكن ثمة مشكلات أخرى ملحة. ولكن مع سرعة انهيار الدولة اللبنانية واقتصادها، فلن تؤدي المناورات السياسية إلا إغضاب الشعب أكثر من جميع الأطراف المعنية.
وبهذا لن يبقى أي خيار سوى “العنف” – ذلك الخيار الذي وظفته الدولة بشكل يثير القلق. ولكن حتى لو تمكن حزب الله والمؤسسة من إنهاء الاحتجاجات، فسيكون الاستقرار الاجتماعي بعيد المنال. وهناك زيادة حقيقية في معدلات الجريمة، وأصبح القصور في الجوانب المعيشية، والذي يجعل الحياة بالغة الصعوبة، أسوأ من أي وقت مضى.
وكانت لبنان معروفة بأنها سويسرا الشرق، واليوم، باتت في طريقها لأن تكون فنزويلا الشرق الأوسط. ولهذا، يجب أن يشكر شعب لبنان “حزب الله” والنخبة الحاكمة” على صنيعهم هذا.
يعمل “حسين عبد الحسين مديرًا مكتب صحيفة الراي الكويتية اليومية بواشنطن، وزميل زائر سابق بالمعهد الملكي في لندن.