تخلى الموسيقيون الأتراك من عازفي الغيتار إلى عازفي الكمان عن آلاتهم الموسيقية مع اجتياح موجة من الرقابة السياسية لقطاع صناعة الموسيقى في البلد.
وتم إلغاء عشرات الحفلات الموسيقية والمهرجانات الفنية في الأشهر الأخيرة من قبل الموالين لحزب العدالة والتنمية الحاكم وذلك تماشيا مع جدول أعمال الرئيس رجب طيب أردوغان، وعمليات الإلغاء تلك هي جزء من اتجاه أكبر يهدف إلى تشكيل سرد ثقافي يتماشى مع رغبات الرئيس.
لكن دائما ما تجد الموسيقى محبيها، ولن يؤدي الحظر إلا إلى زيادة شغف الجمهور بها.
وليس من الصعب رؤية تلك الإلغاءات على أنها قائمة على أسباب سياسية، حيث أوقف حاكم مدينة باليكسير مهرجان كازداغي البيئي في شهر يونيو، الذي تنظمه سنويا «جمعية جبل إيدا» للحفاظ على الموارد الطبيعية والثقافية، وادعى أن ذلك المهرجان قد يؤدي إلى حريق في الغابة، واحتج منظمو المهرجان واصفين القرار بأنه “غير أخلاقي”.
وتم الغاء مهرجان مونزور للثقافة والطبيعة في شهر يوليو في دورته العشرين بعد أن منع مكتب الحاكم في مدينة تونجلي اثنين من الفنانين الناشطين البارزين من الغناء.
وأوقفت الحواجز والعراقيل السياسية مهرجان المليون في مدينة فتحية في شهر أغسطس، وهو أحد أكبر المهرجانات الموسيقية في تركيا، وقال حاكم الاقليم إن المهرجان سيتسبب في اختلال التوازن البيئي، وهو ادعاء غريب بالنظر إلى سجل الحكومة الحافل بتدمير البيئة.
ومعظم المدن التي ألغيت فيها المهرجانات ليست تحت ولاية حزب العدالة والتنمية الحاكم، بل تديرها المعارضة، وذلك هو السبب في أن “فاليليك” أو الحاكم هو الذي أصدر أوامر الإلغاء، حيث يتم تعيين فاليليك ” الحاكم” من قبل الرئيس وهم ممثلون للدولة.
وأكثر ما يثير غضب الأتراك هو المعايير المزدوجة المطبقة على إلغاء الفعاليات، حيث يقال للأتراك أن المهرجانات الطبيعية والحفلات الشعبية بالغة الخطورة، ولكن حضر ما يقدر بنحو 350 ألف شخص افتتاح مسجد آيا صوفيا في إسطنبول في شهر يوليو من عام 2020، واعتبر ذلك الحدث حدثا آمنا، على الرغم من حقيقة أنه حدث خلال الجائحة، وحضر الفعالية أردوغان نفسه.
ودعمت بعض المنظمات غير الربحية، ومعظمها ذات انتماءات دينية، جنون إلغاء الفعاليات الموسيقية تلك، ففي مدينة سانلي أورفا، حشد “ديني غورفليلر بيرليجي” وهو اتحاد للموظفين الدينيين، الحشود من أجل إلغاء حفل موسيقي لفرقة الروك التركية “زاكوم ” لأنه وفقا للقرآن فأن شجرة الزقوم هي شجرة “مزروعة في قاع الجحيم”.
وبالمثل دعا فرع “كوروم في ديانت سين” وهي نقابة لعمال المديرية التركية للشؤون الدينية، إلى إلغاء حفل موسيقي لمغنية البوب “علينا تلكي” لأنها مدافعة عن مجتمع المثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية وحاملي صفات الجنسين.
وقد أثار مشاركة أصوات غير حكومية في المحادثة تساؤلات حول مستوى الدعم الشعبي لتلك الخطوات الحكومية.
ولدى «حزب العدالة والتنمية» سوابق فيما يخص فرض قيمه المحافظة، ويعد اعتقال الأخير لـ “غولسن” وهي من أفضل المغنيات التركيات، مثالا على ذلك، بعد أن أدلت بتعليق ساخر حول خريجي مدارس الإمام الخطيب الدينية، حيث ألقي القبض عليها وهي الآن قيد الإقامة الجبرية في انتظار المحاكمة، ويسعى المدعي العام إلى الحكم عليها بالسجن لمدة ثلاث سنوات.
ومع ذلك، فإن الجانب الأكثر إثارة للقلق هو كيف يمكن للأفكار المحافظة تعزيز قوة المتطرفين الدينيين في البلاد، فبعد إلغاء مهرجان المليون، وهو المهرجان الرابع عشر الذي تم إلغاؤه هذا العام، زعم عضو في حركة الدفاع عن الإسلام، أن منظمات مثل منظمته هي من يشكل الرأي العام وينقذ الناس من الفجور.
وقدمت مزاعم مماثلة بعد أن ألغت الحكومة حفلا موسيقيا كان مقررا إقامته في أنقرة من خلال فرقة البوب الكورية ميراي، وهو عرض كان تحت إشراف وزارة الثقافة والسياحة.
وليس من الواضح ما إذا كان حزب العدالة والتنمية يرضخ لضغوط الجماعات الدينية مثل جماعة الدفاع عن الإسلام، ولكن تلك الفكرة هي فكرة محفوفة بالمخاطر، وفي المرة الأخيرة التي دعمت فيها الحكومة علنا جماعات ذات أجندة دينية مثل حركة غولن، انتهى ذلك بمحاولة انقلاب.
وكان زعيم الجماعة فتح الله غولن وأتباعه حلفاء للحكومة في يوم من الأيام، لكن تصنف الحركة اليوم على أنها منظمة إرهابية.
والموسيقى هي القوة التي تجمع الجماهير، ويمكن أن تشكل أيضا أساس للمعارضة المناهضة للحكومة، حيث سافر ما يقرب من مليوني معجب إلى إزمير للاستماع إلى النجم الكبير تاركان في احتفال بالذكرى المئوية للمدينة في 9 سبتمبر، وليست إزمير معقلا للمعارضة فحسب، بل إن دعم تاركان للقضايا المحلية التي تقف في وجه مصالح حزب العدالة والتنمية جعل من ذلك المغني صوتا للمعارضة.
وكل تلك الأمور تقض مضجع الحزب الحاكم ومؤيديه، وأغنية تاركان، ” كل شيء له نهاية ” التي ظهرت لأول مرة في شهر فبراير وتمت مشاهدتها أكثر من 67 مليون مرة على موقع يوتيوب، وأطلق عليها اسم النشيد الوطني للمعارضة “كل شيء له نهاية، وستنتهي هذه المعاناة… الأيام الجميلة قادمة” حيث جعلت تلك الأغنية من مغنيها هدفا للتهديدات بالقتل.
وفي تركيا، حيث وصل الاستقطاب السياسي إلى ذروته، فالأغنية ليست مجرد أغنية، بل أن الحفل الموسيقي ليس مجرد حفلا موسيقيا، حيث تدور لعبة شد الحبل الموسيقية بين المعارضة وحزب العدالة والتنمية حول كيفية تعزيز الفن والثقافة للأجندات السياسية أو تحديها.
ولكن يمكن لاستهداف الموسيقى وحظر التجمعات العامة والذي يهدف إلى شق صف الناخبين الأتراك، أن يكون له تأثير معاكس، وكما يعلم أي شخص تمايل في انسجام مع الغرباء في حفل موسيقي، فإن الموسيقى تملك القوة لتوحيد الجماهير أكثر من قوتها لتفريقهم.
ألكسندرا دي كرامر: صحفية مقيمة في اسطنبول، وكتبت عن الربيع العربي من بيروت بصفتها مراسلة للشرق الأوسط لصحيفة ميليت. وتتراوح أعمالها من القضايا الحالية إلى الشؤون الثقافية، وقد ظهرت في مونوكل ومجلة كوريير وميزون فرانسيز، واسطنبول آرت نيوز.