الصور التي تم بثها للحشود الغاضبة التي اجتاحت الكونجرس الأمريكي ذكّرت مواطني الشرق الأوسط بمشاهد مرّت بهم عدة مرّات في بلادهم، وبينما شهدت الحروب الأهلية والعنف الجماعي المنظم مثل حالات التمرد والانقلابات انخفاضًا منذ انتهاء الحرب الباردة، فإن منطقة الشرق الأوسط باتت استثناء في هذا الإطار، لذا لم يكن من العجيب أن يسرع عدد من المعلقين إلى المقارنة بين محاولة التمرد في واشنطن وبين الاضطرابات التي هزّت الشرق الأوسط خلال ثورات الربيع العربي التي اندلعت منذ عشر سنوات، وبالطبع فإن تلك المقارنات عملت على إثارة “رواد مواقع التواصل الاجتماعي”، ومع ذلك فقد وفّرت الفرصة في وقت ملائم لتساؤل مؤداه: لماذا ظلت منطقة الشرق الأوسط عُرضة بشكل هائل للعنف؟.
وكي نبدأ يجب أن نتخلّى عن فكرة مؤداها أن أي شخص يتأمل في المقارنات بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط قد فشل في دراسة تاريخ العنف السياسي في أمريكا، والأكثر إثارة للقلق هو أن هذا الأمر يكشف أيضًا عن خطأ في قراءة التاريخ، والحقيقة أن تجربة العنف المعاصرة التي يشهدها الشرق الأوسط مرتبطة بعناصر أساسية تم فرضها على دول الشرق الأوسط في أعقاب الحرب العالمية الأولى، لذا سيكون من قبيل السذاجة أن نربط بين العنف الذي أقدمت عليه الحشود المناصرة لترامب (التي حاولت إفساد نتائج انتخابات شرعية) وبين ثوار الربيع العربي (الذين عملوا على تحدّي الحكام المستبدين مثل الرئيس الأسبق حسني مبارك).
لكن حتى بالنسبة لبعض الأشخاص الذين يمكن الاعتماد عليهم لإدراك هذا الاختلاف، هناك انتقاد مستمر لطريقتهم في قراءة الأحداث – العبارات المتطرفة التي يطلقونها حول التنافر بين العرب المسلمين والديمقراطية؛ والادعاءات بأن الشرق الأوسط ما هو إلا حالة استثنائية، والحقيقة أن المنطقة العربية تعُد مُجبرة على مواجهة العنف مثلها مثل باقي مناطق العالم، وهذا يعني أنه لا يمكننا إنكار حالة العنف المنظم وسفك الدماء التي شهدتها أجزاء واسعة من الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة، والواقع أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا شهدت أعلى معدلات العنف والتدخلات العسكرية مقارنة بباقي مناطق العالم حتى قبل اندلاع ثورات الربيع العربي.
وكي نكون محقين فقد شهدت الانقلابات المتتالية في العالم العربي انخفاضًا منذ نهاية الحرب الباردة، لكن عوضًا عن انتهاء حقبة استخدام العنف كوسيلة لتحقيق الأهداف فقد دخلت المنطقة في دوامة متكررة من العنف، وظهرت تلك الحالة بصورة واضحة حيث باتت ممارسة الطرف الفائز للأعمال الوحشية أمرًا متكررًا بين المتنافسين على أسس طائفية أو أيديولوجية، وقامت الصراعات بناء على “أفكار رنانة” مثل الرأسمالية والليبرالية واللينينية (نسبة إلى لينين) والستالينية والماوية (نسبة إلى ماوتسي تونج) والمذاهب الأخرى التي اختفت من مُعظم المناطق على مستوى العالم، وينطبق هذا الأمر على آسيا في خمسينات القرن الماضي وتحديدًا شبه الجزيرة الكورية وفي فيتنام خلال السبعينات وفي جنوب ووسط أمريكا خلال الثمانينات، لكن التنافس بين أتباع الأيديولوجيات المختلفة والعقائد الدينية استمر بصورة قوية في الشرق الأوسط.
وهناك تفسير آخر لدوامة العنف المتكرر التي يشهدها الشرق الأوسط وهو أن دول المنطقة تأسست بناء على ترتيبات استعمارية فرضتها القوى الكبرى، وعلى سبيل المثال فقد شهدت دول العراق وسوريا ولبنان على مدار التاريخ فترات طويلة من الاحتلال والمقاومة المسلحة، وكما تقول العبارة الشائعة “تم رسم الحدود على الرمال” (تلك الحدود التي رسمها الاستعمار في الشرق الأوسط) لكن دول المنطقة ظلت على هذا الوضع بعد ذلك لعشرات السنين، واستمر التدخل الاستعماري عبر الوصاية البريطانية والفرنسية خلال القرن الحادي والعشرين عبر سياسة خارجية اتسمت بالتدخلات تحت ستار “الحرب على الإرهاب” والمساعدات الإنسانية أو تعزيز الديمقراطية.
لكن هل تعُد التفسيرات المعتمدة على عوامل خارجية كافية؟، بالطبع لا، وذلك مبعثه أن تلك التدخلات لا تأتِ من فراغ، وتلك التدخلات لها تبعات سياسية، فقد نجح الفائزين في النزاعات المحلية في إزاحة منافسيهم، وظهر أشخاص من المتواطئين والمفسدين، وباختصار فإن الدينامية القومية تتعطل حين تتدخل القوى الخارجية وربما يؤدي الأمر إلى تبعات مفاجأة ومتكررة على المستوى الإقليمي.
أولًا فإن مسار الصراعات المحلية ممكن أن يصير غير قابل للتنبؤ؛ وهذا يعود إلى الدعم العسكري الخارجي الذي يمكن له أن يقلب الأوضاع أو فرض العقوبات المُنهِكة أو قيام تحالفات سياسية، وما شهدناه من مسار السياسة الداخلية في كل من العراق وسوريا واليمن أو ليبيا هو أن المساومات باتت أداة من أدوات الخصوم السياسيين المحليين أو فصائل المتمردين، وذلك بسبب التسويات والتنازلات التي تحدث داخل الغرف المغلقة في غياب المسائلة الديمقراطية.
ومن ثم فإن الاحتجاجات المحلية بهدف الإصلاح والتي اندلعت ضد نظام بشار الأسد تحولت إلى حرب متعددة الأطراف مع تدخُل روسيا وتركيا وإيران والولايات المتحدة، حيث قامت تلك الدول إما بدعم قوات النظام أو المعارضة مما دفع إلى استمرار الحرب وعدم استسلام أي طرف أو اعترافه بالهزيمة.
وثانيًا؛ فإن عقود من التدخلات الخارجية قد ضمنت للمستبدين في الشرق الأوسط الاستمرار في الحكم ليس استنادًا على ضمانات ديمقراطية لكن بسبب علاقات هؤلاء الحكام مع القوى الأجنبية، ومبعث ذلك هو علاقة خاصة ملموسة مع واشنطن أو موسكو، ومن ذلك على سبيل المثال منح الشرعية والمكانة لحكام الدول العميلة (والقوى الغير حكومية) حتى ولو ثارت شعوب تلك الدول وقامت بتحدي تلك السُلطة المُطلقة، والواقع أن هذا الأمر ربما يكون السبب في اختيار القوى الأجنبية للشرق الأوسط اليوم للتدخُل في النزاعات عبر وكلاء لهم، والأمر ببساطة هو أن هناك عملاء في الشرق الأوسط – سواء من الحكام المستبدين أو من نشطاء المعارضة – يعملون لصالح أي قوة أجنبية يمكن أن تمنحهم الشرعية.
وبالطبع فإن الإرث الفاسد للتدخُل الأجنبي ليس بكافِ لإعفاء قادة المنطقة من المسؤولية عن مشكلات اليوم، لكن تجاهُل دور الغرب في تأسيس وتطور العنف بالمنطقة هو أمر يجافي المنطق، والفشل في تبرير هذا الأمر يفتح الطريق أمام مفارقة: بينما هناك أجزاء في المنطقة تغمرها مشاعر مناهضة لأمريكا فإن واشنطن تتعرض للوم على خلفية أن سحب قواتها من الشرق الأوسط أدى إلى تصاعُد الاضطرابات.
وقد قُتِل أكثر من 30 شخصًا جراء تفجير انتحاري مزدوج قام به تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بوسط بغداد في الثاني والعشرين من يناير، وقد أخبرتني فتاة تعيش في بغداد قائلة :”ما يثير السخرية هو أن الولايات المتحدة ستتعافى سريعًا من واقعة اقتحام الكونجرس، فأمريكا لديها الأدوات والقوة التي تجعلها تداوي جراحها، لكننا نحن هنا نعيش هذا الكابوس بشكل متكرر“، والواقع أنه لا يمكن تشبيه الشرق الأوسط بالولايات المتحدة، والحقيقة أن التورط الأجنبي المستمر والتحديات التي تواجه الديمقراطية في الداخل مستمران في إلحاق الضرر بمواطني الشرق الأوسط.
بيركيو أوزتشيليك تعمل كزميل باحث ومُحاضِر مُنتسِب بجامعة كامبردج.