يُعرف البشر بضعف مهاراتهم في مجال تقدير حجم المخاطر، حيث يخشى معظم الناس السفر بالطائرة أكثر من خشيتهم من قيادة السيارة، على الرغم من أن احتمالات الوفاة في حادث سيارة أعلى بكثير من الوفاة في حادث تحطم طائرة، ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تبلغ نسبة الوفاة في حادث سيارة (1 من 107) بينما نسبة الوفاة في تحطم طائرة هو (حوالي 1 من 11 مليون).
ولكن ما نجيده حقًا هو خداع الذات.
خذ التدخين على سبيل المثال، فبالتأكيد أن الجميع يعرف الآن أن التبغ مضر للصحة وحسب أوجه عدة، ومع ذلك يتجاهل الملايين من المدخنين وعشاق الشيشة كل يوم الخطر الحقيقي المتمثل في أن عادة التدخين قد تودي بهم إلى التهلكة.
ويغامر المدخنين بحياتهم بنسبة 50 في المئة، حيث يقتل التبغ حوالي نصف متعاطيه، وفي كل عام، يُعرض التدخين حوالي 8 ملايين شخص إلى الموت المبكر، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية.
كما اتضح أن التبغ هو أشد فتكاً من الحروب، حيث إنه في القرن العشرين، أدت الحروب، بما في ذلك الحربان العالميتان، إلى مقتل 72 مليون شخص، بينما قتل التبغ 100 مليون.
ويمثل الموت نصف تلك المشقة، فالطريق إلى الموت الناجم عن التبغ غالبًا ما يكون رحلة طويلة ومؤلمة وحافلة بالتوتر والمعاناة للمحتضرين وأحبائهم.
وبالنظر إلى كل ذلك، والتكلفة الباهظة للأنظمة الصحية حول العالم، فيمكن الاعتقاد أن الحكومات حول العالم ستبذل قصارى جهدها للقضاء على قطاع صناعة التبغ، ولكن ذلك الاعتقاد ليس صحيحاً.
وتحافظ شركات صناعة التبغ على أرباحها، بل وتزيد من نسبة تلك الأرباح عن طريق استهداف بلدان في الشرق الأوسط، نظرًا لأنه يتم إخراجها من الأسواق أوروبية ومن أسواق أمريكا الشمالية، وتقوم بتلك الأنشطة في الشرق الأوسط في كثير من الأحيان بالتعاون مع الحكومات.
وليس من العجب، أن أكثر من 80 في المئة من متعاطي التبغ في العالم، البالغ عددهم 1.3 مليار نسمة يعيشون الآن في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، وذلك فقًا لمنظمة الصحة العالمية.
وفي صفقة شيطانية تم إبرامها مقابل دفع ضرائب عالية، تعمل الحكومات في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بنشاط على تشجيع نمو الصناعة الأكثر فتكًا في العالم، بل وفي بعض الحالات تقوم بمكافئتها.
وقد كشف تقرير نُشر هذا الأسبوع عن المركز العالمي للحوكمة الرشيدة في مكافحة التبغ بالتعاون مع المكتب الإقليمي لشرق البحر المتوسط التابع لمنظمة الصحة العالمية عن تدخل قطاع صناعة التبغ في سياسات مكافحة التبغ في ثماني دول وهي مصر وإيران والعراق والأردن ولبنان، وعُمان، وباكستان، والسودان.
وعلق الدكتور جواد اللواتي، وهو أحد المدافعين عن سياسات مكافحة التبغ في وزارة الصحة العمانية، حيث قال: “في كل مرة نتتبع فيها فشل في إحراز تقدم في أي جانب من جوانب مكافحة التبغ في دول الشرق الأوسط سواء بصورة فردية أو بشكل جماعي، نجد أن شركات التبغ أو موزعوها المحليون أو منظمات الواجهة وبعض الأفراد يقفون وراء ذلك الفشل”.
ولا بد من القول إن عُمان في طريقها للخروج من تقرير مؤشر تدخل الصناعة 2021، وهو المؤشر الذي يحظر ممثلي الصناعة من المشاركة في لجان سياسة الصحة العامة، ولا يقدم لشركات التبغ أي حوافز تجارية، ويرفض الدخول في شراكات صناعية.
وتعد عُمان حالة استثنائية، على الرغم من كون جميع البلدان الثمانية الواردة في التقرير أطراف في اتفاقية منظمة الصحة العالمية الإطارية بشأن مكافحة التبغ (إف سي تي سي)، والتي تلزمها نظريًا بتنفيذ تدابير مكافحة التبغ و “حماية سياساتها الصحية من التدخل التجاري وغير التجاري.”
وفي السودان والعراق، على سبيل المثال، “وجد قطاع صناعة التبغ طريقة للمشاركة في تطوير معايير منتجات التبغ” من خلال وجود ممثلين له في لجان رسمية مختلفة.
وحاز مصنع جديد بنته شركة التبغ الدولية “جي تي أي” في الأردن في عام 2018 على جائزة الإشراف البيئي من قبل وزارة البيئة الأردنية.
وفي مصر، حيث تقدم شركة التبغ العالمية العملاقة فيليب موريس دورات تدريبية لمسؤولي الجمارك لمكافحة التهريب الذي قد يضر بمنتجاتها، حصلت الشركة على شهادة تقدير من وزارة المالية لسدادها الضرائب في الوقت المحدد.
ولطالما سعت شركات التبغ إلى اكتساب النفوذ وتحسين سمعتها من خلال إطلاق مبادرات في مجال المسؤولية الاجتماعية للشركات (سي أس أر)، وهو تكتيك أتقنته في أمريكا وأوروبا مع تنامي الوعي حول أخطار التبغ.
وبعد أن تم طردها من الغرب، اتجهت شركات التبغ بصورة متحايلة إلى الشرق الأوسط، ومن خلال مبادرات مختلفة في مصر والأردن ولبنان وباكستان، استغلت تلك الشركات حتى جائحة كورونا “لكسب التأييد العام والوصول إلى مسؤولين حكوميين في رتب عالية “.
وربما شهد العراق أسوأ مثال على التحايل على عنصر المسؤولية الاجتماعية للشركات في عام 2020، عندما “وزعت وزارة التجارة سجائر ماركة “سومار” المنتجة محليًا جنبًا إلى جنب مع مواد الحصص الغذائية المجانية التي تم توزيعها كمساعدة للأسر الفقيرة”.
وقد استشرى تضارب المصالح الرسمي في نفس الوقت، ولكن ربما يكون الأكثر إثارة للاستهجان هو حقيقة أن العديد من البلدان لديها شركات تبغ مملوكة للدولة، بما في ذلك مصر (شركة التبغ الشرقية) ولبنان (الريجي).
وتجني الحكومات فعلاً الكثير من الأموال، على حساب حياة المواطنين الذين من المفترض أن توفر لهم الحماية والرعاية.
ووفقًا لأطلس التبغ السنوي للجمعية الأمريكية للسرطان، الذي شمل البلدان الثمانية المدرجة في مؤشر تدخل الصناعة لمنظمة الصحة العالمية، يموت أكثر من 360 ألف شخص من الأمراض المرتبطة بالتبغ كل عام.
وفي زمن جائحة كورونا، اعتدنا قراءة أعداد حالات الوفاة المرتفعة، وحتى الآن، فقد أكثر من 5.7 مليون شخص حياتهم بسبب فيروس كورونا الذي ظهر في الصين في ديسمبر 2019.
ولكن، الخطر الأكبر الذي نتجاهله هو جائحة التبغ والتي تحصد الملايين من الأرواح كل عام، والتطعيم الوحيد ضد هذه الجائحة هو التعليم وصياغة سياسات صحية لا تخضع للمساومة.
والنتيجة هي رؤية هذا المشهد الفريد والمخزي للحكومات وهي تبذل قصارى جهدها لمحاربة جائحة كورونا من جانب، بينما تشجع من جانب آخر على انتشار جائحة التبغ الأكثر فتكًا.
جوناثان جورنال هو صحفي بريطاني، كان يعمل سابقًا مع التايمز، وقد عاش وعمل في الشرق الأوسط وهو الآن مقيم في المملكة المتحدة.