بينما كان العالم منشغلاً بتورط روسيا في السياسة الأمريكية، وقوتها المتنامية في الشرق الأوسط، حققت موسكو وبهدوء تقدمًا هامًا في جميع أنحاء إفريقيا. ونظرًا لدورها كقوة موازنة للنفوذ الصيني الكبير في القارة في ظل تراجع الوجود الأمريكي، أقامت روسيا شراكات عسكرية جديدة بمساعدة مرتزقة من القطاع الخاص لإعادة ترسيخ نفسها كقوة كبرى في أفريقيا. ومنذ الحرب الباردة، لم تمارس روسيا نفوذًا كبيرًا بدءًا من أنغولا وصولاً إلى زنجبار.

وكما هو الحال مع سوريا، ما كان للمناورة الروسية أن تتم لولا أن الولايات المتحدة الأمريكية تركت فراغًا يمكن لشخص ما أن يشغله. وبدءاً من الرئيس السابق باراك أوباما ومحوره في آسيا، ورفض إدارةدونالد ترامبالمستمر فيالاستغراق في توسيعقوة أمريكا ونفوذها في جميع أنحاء العالم، خفضت الولايات المتحدة الأمريكية بشكل واضح من مكانتها الاقتصادية والثقافية والعسكرية في القارة الأفريقية. وأصبحت العديد من السفارات الأمريكية بدون سفير أو موظفين أساسيين. وها هو سفير الولايات المتحدة الأمريكية في جنوب إفريقيا، وهو أحد المناصب الدبلوماسية الهامة في القارة، لم يبدأ عمله إلا في شهر أكتوبر، أي بعد أكثر من ثلاث سنوات على تعيينه.

وبالكاد يخفي ترامب احتقاره للقارة الأفريقية، وذلك بعد الإشارة إلى بعض الدول الأفريقية بـحثالة الدول، حتى أنه حاول تسمية بعض الدول الأفريقية الكبرى. وفي خطاب ألقاه في الأمم المتحدة في عام 2017، أشار ترامب مرتين إلى البلد الإفريقي غير الموجود وهينامبيا“.

ومع الوضع غير الموات الذي تعيشه الولايات المتحدة الأمريكية، اغتنمت روسيا فرصة التصدي للنفوذ الصيني في إفريقيا. وفي إطار مبادرة الحزام والطريق، وهو مشروع طموح مصمم لإعادة توجيه التدفقات التجارية من الغرب إلى الصين، توسعت بكين في تقديم القروض وبسط النفوذ في أنحاء القارة. ومن خلال تمويل مشاريع البنية التحتية العامة في الدول الأكثر فقرًا، ضمت الصين العديد من البلدان الأفريقية إلى مدارها الاقتصادي من خلال الديون. وتتفاقم دبلوماسية فخ الديون هذه بهيمنة الصين على قطاع التكنولوجيا. ومن خلال إغراق القارة بالهواتف الذكية الرخيصة، والتطبيقات الصينية مثل WeChat، أسست بكين نفسها كقوة عظمى في تلك القارة.

ومع الاهتمام البسيط بالتكنولوجيا والبنية التحتية، تتوسع روسيا في نفوذها في المقام الأول من خلال المساعدات العسكرية، والمرتزقة التابعين لشركات خاصة، والإعلام. وفقا لصحيفةديلي مافيريك، وهي صحيفة جنوب أفريقية، باتت روسيا اليوم أكبر مورد للأسلحة إلى إفريقيا، حيث وقعت روسيا اتفاقيات عسكرية مع 21 دولة أفريقية. وإلى جانب الصفقات العسكرية، والشراكات في مجال التدريب مع ما يقرب من نصف دول إفريقيا، هناك شراكات في مجال الطاقة النووية مع مصر ورواندا وإثيوبيا وأوغندا وزامبيا. وفي الوقت الذي تكافح فيه جنوب إفريقيا لتنشيط اقتصادها، فإنها قد تقع قريبًا في المدار الروسي.

والعديد من هذه الشراكات العسكرية تعززها صناعة المرتزقة الخاصة المتنامية في روسيا. وعلى غرار المقاولين الأمريكيين العاملين في العراق بعد حقبة صدام حسين، أسست الشركات الروسية شركات تستخدم قدامى المحاربين من الصراعات الشيشانية والأوكرانية. ومن أنجح تلك المجموعات وأهمها، جماعةفاجنر، ومقرها سانت بطرسبرغ، ويديرها أحد أعضاء القلة الحاكمة وهويفغيني بريغوزين، والمعروف أيضًا باسمطاه بوتينبسبب ملكيته للمطاعم والشركات الخاصة بمجال الأطعمة.

وفي شهر أكتوبر، برزت أهمية جماعةفاجنربعد مقتل سبعة من المتعاقدين معها في شمال موزمبيق، حيث كانوا يقاتلون المتشددين المرتبطين بتنظيم الدولة الإسلاميةداعش“. وكشف الحادث عن مدى استعانة موزمبيق بروسيا لإخماد التمرد المتزايد في البلاد. وبدلاً من اللجوء إلى دولة جنوب إفريقيا المجاورة، أو حتى الاتحاد الأفريقي طلبًا للمساعدة، تعتمد موزمبيق على القوات الروسية.

القصة نفسها تتكشف في كل مكان تنظر إليه. ومؤخرًا، وقعت تنزانيا اتفاقية تعاون بموجبها توفر القوات الروسية تدريبات عسكرية مقابل الحصول على تصريح لتطوير الأسلحة واختبارها داخل البلاد. وهناك صفقات أخرى تم توقيعها في النيجر ونيجيريا والسودان ومالي ومدغشقر وإريتريا. ومن نتائج تلك الصفقات ذلك النمو المبهر في تجارة روسيا مع إفريقيا، من 17.4 مليار دولار أمريكي في عام 2017 إلى “20,4” مليار دولار أمريكي في عام 2018. وفي أكتوبر، نظم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أول قمة روسيةأفريقية فيسوتشيلعرض ثمار جهود روسيا في القارة، وحضر القمة 43 من رؤساء الدول الأفريقية من أصل 55 دولة.

وبعد أن استيقظت على حقيقة أن روسيا تدمج نفسها في واحدة من أسرع المناطق نمواً في العالم، باتت الصحافة الأمريكية اليوم تغطي جميع مظاهر تكالب روسيا جيوسياسيًا على أفريقيا. ومن أمثلة ذلك، وفي مقال شديد التشويق، ذكرت صحيفةنيويورك تايمزأن روسيا تنشرأسلحتها الدعائية الدوليةفي شكل قناة RT التليفزيونية المملوكة للدولة، ووكالةسبوتنيكالإخبارية للأنباء في مختلف البلدان لنشر رسالة مفادها،بينما تواصل أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية تجارة استغلال أفريقيا الممتدة منذ قرون مضت، فإن موسكو مستعدة للتعامل مع إفريقيا على أساس المنفعة المتبادلة.”

وبالطبع، الحقيقة خلاف ذلك. ومثل بكين وواشنطن من قبل، تنظر موسكو إلى إفريقيا كجزء من اصولها الثمينة في مدارها الجيوسياسي الجديد. ونجحت روسيا في اختراق الشرق الأوسط. واليوم، تركز روسيا أعينها على ما يمكن القول بأنها الأرض الأكثر خصوبة للنمو، وأكثر امتلاكًا للموارد الطبيعية. ولكن هذا التحول يحدث ببطء، بسبب الخبرة الروسية في التعامل مع الأمور، وايضا بسبب تحفظ أمريكا فيما يتعلق بالمحافظة على مكانتها كقوة عظمى عالمية. إن المخاطر في لعبة الجغرافيا السياسية كبيرة. لقد ترك المستعمر القارة الأفريقية، وتدخلت قوة جديدة لشغل هذا الفراغ.

يعملجوزيف دانا، والذي يتخذ من دولة جنوب أفريقيا ودول الشرق الأوسط موطنًا له، كبير محرري “emerge85”، وهو أحد المختبرات التي تستكشف التغيرات في الأسواق الناشئة وتأثيرها العالمي.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: