تحولت الحالة المزاجية بين النشطاء السوريين من الاحتفال إلى الإصرار الصامت، بعد أيام من انتهاء المحاكمة الأولى حول ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في الحرب الأهلية السورية المستمرة منذ فترة طويلة.

وكانت المحاكمة في مدينة كوبلنز بغرب ألمانيا هي المرة الأولى التي تدين فيها محكمة في أي مكان في العالم أحد أتباع النظام بتهم تتعلق بقمع ما بعد عام 2011، ولن تكون تلك المحاكمة هي المحاكمة الأخيرة، لكن كان الطريق للوصول إلى ذلك الحكم بالإدانة طويلًا ومعبدا بالغموض، وحتى مع ذلك الانتصار، لا يزال النظام واقفاً على قدميه، ولا تزال زنزانات التعذيب قائمة ولا يزال ملايين السوريين يعيشون في المنفى، وعليه كان لحلاوة حكم الإدانة مذاق مرير.

ومع ذلك، فإن الحكم الصادر في الأسبوع الماضي بسجن أنور رسلان، ضابط مخابرات النظام السوري السابق، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، هو حكم بالغ الأهمية. وتلك هي المرة الأولى التي يُحاسب فيها عضو بارز في نظام الأسد على جرائم القتل والتعذيب في السنوات التي أعقبت انتفاضة 2011.

كما إن تلك المحاكمة تسلط الضوء على أهمية جمع الأدلة داخل سوريا، حتى عندما يكون هناك احتمال ضئيل جدا بتطبيق العدالة، وكانت محاكمة كوبلنز هي المرة الأولى التي يتم فيها استخدام أدلة المصور العسكري السوري المعروف باسم قيصر في محكمة قانونية.

كما توضح تلك المحكمة أهمية الأساليب القانونية المبتكرة في مقاضاة بعض أسوأ الجرائم حول العالم، حيث أصبحت محكمة كوبلنز ساحة اختبار لمبدأ الولاية القضائية العالمية، والتي يمكن للدول من خلالها مقاضاة الجرائم الدولية، حتى لو لم تحدث في إطار حدودها.

ولكن لم تخل المحاكمة من العيوب، وكانت محاكمة رسلان، في أحسن أوصافها هي أول محاكمة غير مكتملة الأركان للجرائم المرتكبة على التراب السوري.

وعلى عكس الرئيس السابق ليوغوسلافيا “سلوبودان ميلوسيفيتش” الذي أدين أيضًا بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، لم يكن رسلان في قمة هيكل السلطة، حيث عمل كعقيد متوسط ​​الرتبة، وانشق عن النظام في العام التالي لبدء الانتفاضة.

كما لم يتم اعتقاله وهو يعمل داخل النظام أثناء ارتكابه لتلك الجرائم، على العكس من ذلك، انشق رسلان وساعد المعارضة وحصل على حق اللجوء في ألمانيا ولم يتم التحقيق معه إلا من قبل الشرطة الألمانية بعد أن وصف دوره داخل النظام في محاولة لمساعدة تحقيقاتهم مع مسؤول سوري آخر..

وقد أفضى ذلك إلى انتقادات مفادها أن رسلان، لن يكون بداية موجة من الملاحقات القضائية التي تحاسب النظام، بل هو مجرد ضحية، حيث إنه رجل انشق عن النظام والقى بنفسه إلى أيدي أعداء النظام وهو يعاقب الآن على فعلته تلك، وقد أدى ذلك إلى تشكيك البعض في الأساس المنطقي لهذه القضية والمحاكمات المتبقية الأخرى.

ولا تملك المحاكم الألمانية صلاحية القبض على عناصر في الجيش السوري أو أجهزة المخابرات أثناء أدائهم لخدمتهم، والوحيدون الذين يمكنهم تقديمهم للعدالة هم أولئك الذين انشقوا بالفعل.

ومع ذلك، فإن قيمة مقاضاة التابعين للنظام السابق تتجاوز قضية واحدة، حيث سيتطلب بناء زخم ضد النظام العديد من القضايا، مبنية لبنة فوق لبنة، لتشكل حائط قانوني وسياسي، كما سيتطلب الأمر المزيد من الشهادات التي ستُميط اللثام عن حوادث مروعة والعديد من الاعتقالات، وسوف يتطلب الكثير من المقاضاة غير مكتملة الأركان.

.وفضلاً عن ذلك، هناك من يجادل أن أولئك الذين تمت محاكمتهم، قد تخلوا بالفعل عن النظام، بحكم تركهم سوريا، وتفيد تلك الجدلية الرئيسية أن التابعين للنظام تخلوا عنه لأنهم لم يعودوا مقتنعين به.

ولا ينطبق ذلك المنظور على كل الحالات، فقد هرب البعض فقط لأنهم اعتقدوا أن النظام على وشك الانهيار أو لأنهم اعتقدوا أنهم قد يتمتعون بحياة أفضل في أوروبا، حيث اختلطوا بالمهاجرين الفارين من القمع الذي كانوا هم سببا فيه. وفكرة أن كل من طلب اللجوء كان تائبًا هي فكرة خاطئة.

فهل قللت محاكمة كوبلنز من احتمال فرار المنشقين عن النظام؟ بالطبع نعم. فالعديد ممن فروا وكشفوا عن جرائم النظام سوف يعيدون النظر، خائفين من أن ينتهي بهم الحال خلف القضبان.

ومع ذلك، فإن أولئك الذين أرادوا الانشقاق كانت لديهم فرصة كبيرة للقيام بذلك، وليس من المرجح الاعتقاد بأن المنشقين سيقفون إلى جانب الأسد خلال كل سنوات الحرب، فقط ليتخلوا عنه وهو قاب قوسين أو أدنى من تحقيق النصر.

فهل يعني ذلك أن على بعض المنشقين التستر خوفاً من توريط أنفسهم في جرائم حرب؟ هذا محتمل، ويجب أن يشكل ذلك مصدر قلق أكبر، حيث لا تزال الحاجة قائمة للكشف عن الكثير من المعلومات حول الأعمال الداخلية للنظام، وسيتمكن المنشقون من توفير بعض تلك المعلومات.

ومع ذلك، فإن فكرة أنه لا ينبغي محاكمة شخصيات مثل رسلان، أو أن العدالة يجب أن تنتظر حتى يتم جمع كل المعلومات حول جرائم النظام أو “والأسوأ من كل ذلك” أن النظام نفسه يختفي، كل تلك فرضيات غير واقعية، والعدالة المتأخرة هي الظلم بعينه.

من المؤكد أن محاكمة كوبلنز غير مكتملة الأركان، ولكن غالبًا ما تكون الخطوة الأولى للوصول إلى العدالة هي خطوة يعوزها الكمال.

نعم، نظام الأسد لا يزال قائماً. نعم، تمت إدانة شخص كان مجرد جزء من آلة التعذيب.

لكن هذا لا ينبغي يقلل من شأن الانتصار الهائل الذي تحقق على الأراضي الألمانية، وهو مُحصلة سنوات من العمل الجاد والدقيق من جانب النشطاء السوريين والمحققين الألمان.

لقد بدأ الحساب لجرائم نظام الأسد وإن كان وئيد الخطى، وخطوة بخطوة، وسنة بعد سنة، ستأخذ العدالة مجراها لما حدث في سوريا، ثم ستشق العدالة طريقها، بحتمية المؤشرات التاريخ، إلى القصر الرئاسي في دمشق.

 

يعمل فيصل اليافعي حاليًا على تأليف كتاب عن الشرق الأوسط وهو معلق دائم الظهور على شبكات الأخبار التلفزيونية الدولية، وعمل لمنافذ إخبارية مثل ” ذاغارديان” و “بي بي سي” ، ونشر تقارير عن الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: