من خلال الانضمام إلى الغرب في إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا ودعم الجيش الأوكراني، ترقص تركيا على الحبل بين حليفين لها — موسكو وكييف. وعلى الرغم من فشل اجتماع الوفدين الأوكراني والروسي في اسطنبول الشهر الماضي في التوصل إلى اتفاقية سلام، ما زال صانعو السياسات الأتراك يصرون على أن بإمكانهم تيسير الحوار بين طرفي الصراع.
لكن ثمة تكتلًا سياسيًّا تركيًّا واحدًا تبنى وجهة نظر مختلفة تمامًا عن الحرب؛ فيرى مناصرو الأوراسيوية في تركيا أن خسارة أوكرانيا مكسب لهم.
«الأوراسيوية» مصطلح عام يشمل جماعات متباينة، من بينها الإسلاميين والقوميين اليساريين الذين يطلق عليهم Ulusalcis بالتركية، والكثير منهم لديهم خلفيات عسكرية. تتمحور أفكار هذه الجماعات حول عدم الثقة في الغرب، وإضفاء الطابع الرومانسي على التاريخ التركي بأكمله، ومناصرة دولة تركية وسطية قوية في نظام عالمي متحالف مع روسيا وإيران والصين والدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى. ومنذ انتخابات عام 2015، التي خسر فيها حزب العدالة والتنمية الأغلبية البرلمانية، صار للقوميين المتطرفين في حزب العمل القومي وبعض الشخصيات في التكتل الأوراسيوي دور كبير في السياسة.
وفي تقرير جديد صادر عن المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية بعنوان «الأوراسيوية في تركيا»، يذكر المحلل سوات كينيكليوجلو أنه ليس من السهل تصنيف الناخب الأوراسيوي لأن «ليس كل القوميين اليساريين أوراسيويين، وليس كلهم يؤيدون نفس الحزب السياسي»، ولكن من السهل رؤية تأثيرهم. فكتب كينيكليوجلو: «على الرغم من قلة أعداد [الأوراسيويين] وضعف أدائهم الانتخابي، فإنهم يتمتعون بتأثير كبير للغاية في النظام البيروقراطي الأمني والقضاء، ويحاولون علنًا تشكيل النقاش الاستراتيجي في تركيا».
جاءت مشاركة دوجو برينجك، رئيس الحزب الوطني، في ذلك النقاش على النحو التالي: بينما كانت الدبابات الروسية تتقدم عبر الحدود الأوكرانية، أشار برينجك أن توسع حزب الناتو باتجاه الشرق شكّل تهديدًا لتركيا، ووصف الغزو بأنه «سلاح روسي سيجلب السلام والاستقرار»، وحثَّ الحكومة التركية على مقاومة فرض عقوبات من «التعاون الأطلسي» على روسيا.
حتى وقت قريب، كانت مثل هذه التصريحات لتجذب مزيدًا من الاهتمام من حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي اعتمد على الأوراسيويين في الحصول على دعم. أما اليوم، وبسبب التقارب بين التيارات السياسية، فقد غُضَّ الطرف عن تلك التصريحات.
فتتمثِّل إحدى الركائز التي قام عليها صنع السياسة الخارجية لأنقرة في السنوات الأخيرة في الرغبة فيما يمكن تسميته «بالحكم الذاتي الاستراتيجي» — أي القدرة على التصرف دون التأثر بالآخرين. وجّه هذا المفهوم السياسة الخارجية التركية إلى درجة أنه عند مواجهة تركيا خطر ابتعاد جيرانها عنها بسبب نزعتها الانفرادية غير المرنة في سوريا وليبيا وشرق البحر الأبيض المتوسط، بدأت النخب الحزبية في الإشادة بـ «الوحدة السامية» للبلد.
لكن خلال العامين الماضيين، اتخذت تركيا خطوات ملموسة لإعادة علاقاتها مع الدول المجاورة؛ فتواجه الحكومة تضخمًا كبيرًا غير مسبوق (60 في المائة، وفقًا للأرقام الرسمية)، وارتفاعًا في معدلات البطالة، إلى جانب انخفاض في قيمة العملة. ومن ثم، فإن تحقيق مكاسب في الخارج يخفف بعضًا من هذه الضغوط الداخلية، ويضفي مصداقية على الحزب الحاكم.
يبدو أن الاستراتيجية الجديدة لأنقرة تُطبِّع العلاقات مع الدول الأعضاء في حزب الناتو والاتحاد الأوروبي، فضلًا عن الحلفاء الإقليميين مثل الإمارات وإسرائيل ومصر. وأدى كلٌ من الاستقرار النسبي في الاقتصاد الكلي والإصلاح السياسي، إلى جانب الدور المتراجع للولايات المتحدة وغيرها من الدول التي لطالما كان لها نفوذ كبير، إلى منح بعض النفوذ لوسطاء جدد — وهو الدور الذي تبدو تركيا حريصة على لعبه.
هذا وقد أدت الإدانة الدولية لحرب روسيا الكارثية إلى الإطاحة بالرؤية الأوراسيوية لنظام إقليمي يتحدى الهيمنة الغربية تحت قيادة تركيا وروسيا؛ فبينما تتأهب تركيا للانتخابات البرلمانية والرئاسية التي توافق الذكرى المئوية لإقامة الجمهورية التركية العام المقبل، ستتغير التحالفات المحلية التكتيكية الضعيفة، وسيكون نجاح السياسة الخارجية إحدى طرق تعزيز مكانة حزب العدالة والتنمية بين الناخبين الذين يأملون بشدة في التقليل من الخسائر التي شهدتها سمعة تركيا. هذا بدوره يمكن أن يسفر عن أرباح اقتصادية في شكل تطور واستثمار أجنبي جديد.
وبينما يواصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المطالبة بإصلاح الأمم المتحدة تحت شعار «العالم أكبر من خمسة»، في إشارة إلى الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، تعكس السياسة الخارجية الجديدة لتركيا رغبة قوية في اختيار إعادة الاندماج مع النظام العالمي بدلًا من تعديل الوضع القائم. فالحكمة التي تقوم عليها الاستراتيجية الأوراسيوية الرئيسية، التي سعت إلى إعادة توجيه سياسات تركيا الخارجية والأمنية تجاه موسكو، أصبحت محل تشكيك في أنقرة مع ارتكاب فلاديمير بوتين أخطاء تقديرية استراتيجية واحدًا تلو الآخر.
لكن هذا يولِّد معضلة تتمثّل في وجود توتر بين السياسة التركية الداخلية والخارجية؛ إذ يجتمع الناخبون الأتراك من جميع الأطياف السياسية حول رغبة قومية في رؤية تركيا مستقلة لا تدين بالفضل لأي جهة فاعلة خارجية. لذا، فإن إقناع الناخبين الأتراك والقوميين المتطرفين العاملين في قوات أمن الدولة والنظام البيروقراطي — بما في ذلك الجماعات الموالية لبرينجك — بمزايا عودة حزب العدالة والتنمية إلى صفوف حلفائه في أوروبا وعبر الأطلسي، قد يمثل تحديًا آخر للحزب الحاكم.
لقد كان الاتفاق الفضفاض مع الأوراسيويين اتفاقًا براجماتيًّا يهدف إلى تقوية قبضة الحكومة على السلطة. ومما يذكرنا بالقطبية الثنائية في حقبة الحرب الباردة، تبدو تركيا الآن مستعدة لاستعادة دورها كحليف رئيسي لحلف الناتو وجزأ لا يتجزأ من الأمن الأوروبي. لكن مع اقتراب الانتخابات، ستتوسع الحكومة في استخدام شعارات «تركيا أولًا» التي أثبتت جدواها، مع الحرص على عدم إبعاد الناخبين الذين يرتابون من التدخل الأمريكي في المنطقة. إذن فيما يخص الأورواسيويين في تركيا، أدت الحرب على أوكرانيا إلى إضعاف سرديتهم، لكنها لم تقض عليها تمامًا.
بوركو أوزسيليك زميلة باحثة ومُحاضِرة مُنتسِبة في جامعة كامبريدج.