تُصنف لبنان من ضمن الدولة الفاشلة، فعلى أرضها اُقترفت كافة وجميع الأخطاء، وبعد ذلك أعادت الحكومة نفس تلك الأخطاء مراراً وتكراراً. بدءاً من انهيار العملة الوطنية، إلى الانكماش الاقتصادي، إلى فضائح الفساد المتعاقبة. فمن الواضح والجلي أن من يتولى دفة القيادة ليس بالشخص المناسب. وهنا تكمن المشكلة، فبالرغم من أن اللبنانيين يعتقدون أنهم في حاجة إلى قادة جدد، لكن العديد منهم غير قادر ثقافياً على الالتزام بالقادة المناسبين، وهؤلاء يقفون حائط صد أمام باقي الشعب اللبناني التواق إلى عيش حياة طبيعية.
عندما فاجأ تحالف من مرشحي المجتمع المدني العلمانيين تحالف أحزاب الاقلية الأوليغار وحزب الله في انتخابات نقابة المهندسين، والتي أجريت في وقت سابق من هذا الشهر، اعتقد الكثير بوجود أمل. وتلك النقابة هي واحدة من أكبر النقابات في البلد، وتنحصر مسؤوليتها في وضع لوائح البناء. وكانت الانتخابات عبارة عن جس نبض الشارع للانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها العام المقبل. وبعد تلك الهزيمة المؤسسية، أبصرت المعارضة بارقة أمل. ولكن لسوء الحظ، فمن غير المرجح أن يتم إنقاذ البلد من خلال صندوق الاقتراع.
وأساس المشاكل والصعاب التي يواجها لبنان هو ذلك النظام السياسي العتيق الذي يجعل من التغيير مستحيلاً. فعلى الرغم من أن الشعب اللبناني يمارس حقه في التصويت منذ زمن بعيد، إلا أن البلد لا يملك نظاماً ديموقراطياً فعلياً. لكي يكون لديك ديمقراطية، فأنت بحاجة إلى أمة. ولا توجد أمة موحدة في لبنان، بل اتحاد قبائل، وكل قبيلة تسعى وراء مصالحها الشخصية.
على سبيل المثال ستقوم جماعة الشيعة بالتصويت لأي شيعي على حساب أي سني كفؤ لأن الشيعة يلومون أمويين دمشق، الذين يُعتقد أنهم ينتمون لجماعة السنة، ويلوموهم لما حصل في معركة كربلاء عام 680، والتي قُتل خلالها إمامهم الثالث الحسين.
وفي الجانب الآخر، لا يزال المسيحيون يحملون شيء من الضغينة تجاه الفتوحات الإسلامية في القرن السابع، ويلومون المسلمين على تدمير الحضارة الفينيقية المزدهرة ثم صبغها بالصبغة العربية والاسلامية. ولا يزال العديد من المسيحيين اللبنانيين يحملون العداء تجاه الثقافة العربية. وقد ارتبطت لبنان بأوروبا الغربية منذ ميلادها في عام 1920، وخاصة فرنسا. وفي الأوساط المسيحية اللبنانية، يُنظر إلى من يتحدث الفرنسية على أنه لبناني “أصيل” وليس إلى من يتحدث العربية. ولا يشعر هؤلاء باي حرج من الحقبة الاستعمارية.
إن الشرف القبلي والأحقاد المتراكمة منذ قرون مضت، يحددان لمن يصوت العديد من اللبنانيين. حتى اللبنانيون العلمانيون وغير الطائفيون أدلوا بأصواتهم نكاية بحزب الله واحزاب الاقليات، وليس لصالح سياسات داخلية أو خارجية محددة
والتحدي الذي أجهض حركتين لبنانيتين سعيا من أجل التغيير، هو النظر إلى العالم المحيط من منظور الشرف القبلي، بدلاً من التفكير في مصالح ملموسة وقابلة للقياس.
في عام 2005، نزلت أكثرية كاسحة إلى الشوارع وأجبرت سوريا على سحب قواتها من لبنان. وكانوا على وشك فرض استقالة الرئيس إميل لحود، الذي أصبح في ذلك الوقت الورقة التي تحمي ميليشيا حزب الله المسلحة والتي فقدت دستوريتها. لكن البطريرك الماروني الراحل نصرالله صفير، أحد أكبر مؤيدي انتفاضة 2005، عارض إجبار لحود الماروني على الاستقالة، خوفًا من أن تحمل سابقة مثل هذه أخبار سيئة للموارنة. ولم يستطع نصرالله صفير رؤية الصورة الكلية أو الغابة اللبنانية، بل ركز على الشجرة المارونية فقط.
وفي عام 2019، أخذ بشارة الراعي وهو خليفة نصرالله صفير، الملتزم بسياسة الحياد الإقليمية اللبنانية المعقولة، نفس الموقف تجاه متظاهري الصيف الماضي عندما طالبوا باستقالة الرئيس الماروني ميشال عون.
إن اللبنانيين غير قادرين على رؤية الصورة كاملة، وهم يركزون بدلاً من ذلك على مصالحهم القبلية والطائفية، ومن الخطأ اعتبار تلك المصالح هي المصالح الحقيقية. وفي ظل النظام اللبناني البيزنطي الشهير للسياسة الطائفية، فإن منصب الرئاسة مخصص لماروني، ومنصب رئيس الوزراء لشخص سني وما إلى ذلك. فكيف لنظام كهذا أن يكون ديموقراطيا؟
ولإصلاح البلد، على اللبنانيين مراجعة علاقاتهم الاجتماعية والدستور وإعادة كتابة الدستور بطريقة تربط الدولة بمواطنيها، بصورة فردية، بدلاً من الترتيب الحالي الذي يربط الدولة بالوسطاء الطائفيين.
والشعبوية والطوائف ليست حصراً على لبنان فقط. ففي أمريكا، يتمتع كل من دونالد ترامب وزعماء حركة “الاستيقاظ” اليسارية بالكثير من الاتباع المتفانين. ومع ذلك، فإن الفارق بين أمريكا ولبنان هو أن اتباع ترامب المتفانين يشكلون ثلث الجمهوريين، وهم بدورهم أقل من نصف السكان، ويشكل الجيل المستيقظ جزءًا صغيرًا من الناخبين الأمريكيين، لكن الناخبين القبليين في لبنان هم الأغلبية. وطالما أن غالبية الناخبين يأخذون الأوامر من زعماء عشائرهم بدلاً من مسائلتهم، فلن يتغير لبنان.
ستبقى لبنان دولة فاشلة إلى أن تحصل على أغلبية تدرك أن المسؤولين المنتخبين يجب أن يعملوا للشعب، وأن السياسة مرتبطة بمصالح الأمة بأكملها، وليست مرتبطة بشرف مجموعة أو طائفة. لكن يبدوا أن طريق التغيير والاصلاح لايزال طويلاً جداً.
حسين عبد الحسين هو زميل باحث في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات في واشنطن العاصمة.