سيطرت “مبادرة الحزام والطريق الصينية على الحوارات السياسية بمنطقة أوراسيا على مدار الأعوام الخمسة الماضية، وهي خطة تتميّز بالطموح وبكونها واسعة النطاق، وتهدف إلى تطوير البنية التحتية والاتصالات والتجارة على مستوى عدة قارات وبتكلفة تبلُغ تريليونات الدولارات، وبالتزامن مع المشروعات المعنية بالمبادرة، مثل مشروعات “البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية”، وهو بنك التنمية الذي تديره الصين، فإن مبادرة الحزام والطريق تهدف إلى إعادة هيكلة النظام الإقليمي في قارة آسيا.
وبالنسبة للصين، فإن هذا المشروع العملاق يرمي إلى تحقيق هدف واضح: وهو تأسيس نظام إقليمي بقيادة الصين يعمل على تقويض اتجاه النفوذ بعيدًا عن الولايات المتحدة وحلفائها ويوجهه نحو المملكة المتوسطة. والمشروع الصيني يستهدف تلك الدول المحالفة للولايات المتحدة، بما فيها اليابان.
وعلى مدار عشرات السنين، كانت اليابان هي الحليف الأقوى والأقرب إلى الولايات المتحدة، وكان الاقتصاد الياباني يحتل المركز الأول على مستوى قارة آسيا. وعلى الرغم من القيود التي يفرضها الدستور الياباني السلمي، فقد قامت طوكيو بالاستثمار في قوة الإقناع عبر إرسال المساعدات الخارجية، إلى المؤسسات الدولية مثل “بنك التنمية الآسيوي”، والذي يعُد المؤسسة التي تتعرض للمنافسة بشكل مباشر من “البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية”.
والآن تشاهد اليابان وغيرها من حلفاء الولايات المتحدة قوة إقليمية ناشئة في طريقها بثبات للسيطرة على منطقة أوراسيا.
وقد تمثّل رد فعل طوكيو على النفوذ الصيني المتصاعد في تطوير بدائل يابانية لمنافسة مشروع الحزام والطريق. وعلى الرغم من عدم الإعلان عن برنامج واحد في هذا الإطار؛ فإن رئيس الوزراء شينزو آبي مستمر في الحديث عن “جودة الاستثمار في البنية التحتية” خلال المناقشات التي يجريها حول المشروعات العابرة للحدود، وتستهدف تلك المشروعات اليابانية السخية ذات الأماكن التي تعُد هدفًا للاستثمارات الصينية في كل من آسيا وإفريقيا.
وفي شهر أكتوبر الماضي وقّعت اليابان والاتحاد الأوروبي على صفقة تتعلّق بالبنية التحتية في كل من أوروبا وآسيا، ولا تختلف أهداف تلك الصفقة كثيرًا عن أهداف مبادرة الحزام والطريق: وهي زيادة الاتصالات عبر الاستثمار في دول العالم الثالث بكل من أوروبا الشرقية وآسيا وإفريقيا، وتهدف تلك الشراكة إلى تشجيع التجارة الحرة المفتوحة المبنية على القواعد، وتعزيز الاستثمار وتشجيع الانفتاح والشفافية، وتلك السياسة تأتي على العكس من نظيرتها الصينية التي تعتمد على الصفقات غير المشروطة وفي بعض الأحيان تقديم الاستثمارات والقروض المُجحِفة.
وتسعى طوكيو أيضًا إلى الوصول لشركاء آخرين بخلاف الدول الأوروبية، من أجل تنفيذ المشروعات التي يتباهى بها “شينزو آبي” والخاصة بجودة الاستثمار في البنية التحتية. وقد أعلن رئيس الوزراء الياباني في شهر نوفمبر من عام 2016 وإلى جواره رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، عن فكرة “ممر التنمية الآسيوي الأفريقي”. فعلى الرغم من التداخل الجغرافي الواضح، فإن أهداف “ممر التنمية الآسيوي الأفريقي” لا تختلف عن أهداف الشراكة الأوروبية اليابانية فيما يخص الاتصال المستدام وجودة البنية التحتية: جودة البنية التحتية وعملية تبادل الأشخاص والتنمية المستدامة. تتماشى تلك المبادئ مع عملية التأكيد التاريخية اليابانية التي تؤكد على قوة الإقناع، وهي تعكس دور اليابان المحوري فيما يتعلّق بالسعي لتلك المبادرات مع الدول التي ترغب في الشراكة مع طوكيو.
وعلى أي حال، فإن المتاعب التي تواجه المبادرتين تتمثّل في افتقاد القوةالقتالية، والمعروف أن الاتفاقية بين الاتحاد الأوروبي واليابان يدعمها صندوق يبلُغ حجمه 60 مليار يورو وهو مبلغ ليس بالقليل، لكنه يبدو تافهًا عند مقارنته بمئات المليارات من الدولارات التي أنفقتها بكين على مبادرة الحزام والطريق. ففي عام 2019 فقط، استثمرت الصين 21 مليار دولار في مشروعات خارجية في إطار مبادرة الحزام والطريق، وذلك وفقًا لأرقام المعهد الأمريكي للمشروعات الذي يتتبع الاستثمارات الصينية، وقد بلغت نسبة الاستثمارات الصينية في عام 2018 حوالي ضعف استثمارات عام 2019، حيث بلغت 53 مليار دولار.
وفي ذات الوقت فإن ممر التنمية الآسيوي الأفريقي يبقى مجرد فكرة، فلم يتم تخصيص ميزانية له كما لم يتم تحديد المشروعات الخاصة به. وبعد مرور 3 سنوات على إعلان شينزو آبي عن هذا المشروع إلا أنه فعليًا بات عديم القيمة.
وربما لأن كل منهما على وعي بالقيود التي تعوق تنفيذ تلك البرامج، فقد سعت حكومتي كل من الهند واليابان – كل على حدة – إلى إقامة المشروعات الخاصة بكل طرف، والتي تعُد بمثابة حائط صد أمام مبادرة الحزام والطريق الصينية. وفي شهر مايو من العام الماضي، وقعت كل من الهند واليابان على اتفاقية مشتركة لتطوير محطة الحاويات بميناء كولومبو في سريلانكا، وبالطبع كانت سريلانكا مستفيدة من إحدى المشروعات الصينية الخارجية سيئة السمعة، وهو مشروع إنشاء ميناء هامبانتوتا الذي انتهى الأمر بتأجيره لشركة صينية لمدة 99 عامًا، وذلك لأن سريلانكا لم تستطع تسديد الديون المستحقة عليها.
وقد ظهرت أيضًا تقارير في شهر إبريل من عام 2019، تتحدث عن أن الهند واليابان بصدد تأسيس مستشفى في كينيا، وهو مشروع يهدف إلى بسط قوة الإقناع لكل منهما في قارة تعُد الصين في الوقت الحالي شريكًا تجاريًا رئيسيًا لها، ومن أبرز الدول التي تضخ استثمارات أجنبية مباشرة في القارة (وتأتي خلف الدول الأوروبية). وفي ذات الوقت فقد تعهّد شينزو آبي في شهر أغسطس الماضي باستثمار 20 مليار دولار في القارة الأفريقية على مدار 3 سنوات.
تظل تلك الجهود ضعيفة مقارنة بالاستثمارات الصينية في الشرق الأوسط وأفريقيا والحجم الهائل لمشروعات مبادرة الحزام والطريق. وخلال الفترة من عام 2013 حين تم الإعلان للمرة الأولى عن مبادرة الحزام والطريق وحتى عام 2018، استثمرت الصين 11 مليار دولار في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مشروعات متعلقة بمبادرة الحزام والطريق، وتم ضخ استثمارات أخرى بقيمة 30 مليار دولار في منطقة جنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا. وعلى النقيض، استثمرت اليابان 5.5 مليار دولار في منطقة الشرق الأوسط و5 مليارات في القارة الإفريقية خلال ذات الفترة، ووفقًا لإحصاءات منظمة التجارة الخارجية اليابانية فإن حجم تلك المشروعات لا يتعدّى 25% من حجم استثمارات مبادرة الحزام والطريق.
يواجه مشروع الحزام والطريق نفسه الكثير من المتاعب: فقد انخفضت الاستثمارات إلى النصف خلال العام الماضي عن العام الذي سبقه، وافتقرت تلك المشروعات إلى التماسك حتى بدا أنها بلا فائدة. وإلا كيف سوف نفسر ضم أمريكا الجنوبية إلى مبادرة الحزام والطريق التي كان هدفها الرئيسي تسهيل التجارة بين أوروبا وآسيا؟
لكن على الرغم من تلك التحديات، لا زالت مبادرة الحزام والطريق تطغى على المشروعات الإقليمية المنافِسة، كما أنها تؤثر على التفكير إذا ما فكر الشرق الأوسط وإفريقيا في شركاء استثماريين.
وتعتبر الدولة الوحيدة التي في استطاعتها منافسة الصين هي الولايات المتحدة، والتي اختارت أن تبقى بمعزل عن تلك المنافسات الاستثمارية الإقليمية. وعملت الاستراتيجية الخاصة بالهند والمحيط الهادئ التي أعلن عنها وزير الخارجية مايك بومبيو في شهر يوليو من عام 2018، على تقديم 113 مليون دولار فقط (مليون وليس مليار) في مجموعة من المشروعات الاستثمارية على مستوى المنطقة.
وبما أن الولايات المتحدة باتت خارج اللعبة، فقد بات الأمر متروكًا لحلفاء الولايات المتحدة مثل اليابان للاستمرار في المحاولة ومنافسة الصين، لكن تلك الجهود ربما تستمر في التلاشي تحت وطأة أنشطة بكين.
كريستيان لو ميير هو مؤسِس Arcipel، وهي مؤسسة للاستشارات الاستراتيجية وتمتلك مقرين في لندن ولاهاي، وشغل سابقًا منصب كبير المستشارين في مؤسسة مستقلة بأبو ظبي، كما شغل منصب كبير زملاء المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية ومقره لندن @c_lemiere