أعقبت الحرب الروسية المفاجئة على أوكرانيا سلسلة من العقوبات التي فرضتها سريعًا الولايات المتحدة وأوروبا لتعزل بها روسيا وتخرجها من النظام المالي العالمي، الأمر الذي مثّل إثباتًا للجميع على العدد الهائل من الأسلحة المالية التي يملك الغرب زمامها.

بعد أسابيع من ذلك، أعلن الرئيس فلاديمير بوتين أن الغرب يشن «حربًا اقتصادية» عليه، وأنه قد بدأ، ردًا على ذلك، في استخدام بعض من الأسلحة المالية الروسية.

سيشهد هذا الأسبوع أول اختبار حقيقي لهذا الإعلان؛ فقد حذر بوتين الأسبوع الماضي البلدان «غير الصديقة» — وهو ما كان يقصد به في الواقع الدول الأوروبية — مشيرًا إلى أنها ستضطر إلى البدء في دفع ثمن الغاز الطبيعي بالروبل، بدلًا من الدولار أو اليورو. وقد أمهل بوتين البنك المركزي الروسي حتى نهاية مارس لتحديد كيفية تحقيق ذلك.

وإذا تحقق بالفعل، فلن يكون تهديدًا فارغًا؛ وذلك لأن الدول الأوروبية مجتمعةً تشتري 40 بالمائة من غازها الطبيعي من روسيا، وتدفع ما يصل إلى 800 مليون دولار في اليوم مقابله. ومن ثم فهذه خطوة غير مسبوقة، والتي اعترض عليها الاتحاد الأوروبي، وإن كان هذا الاعتراض قد تُهدئ من وطأته في النهاية المصلحة الذاتية.

هذه الخطوة الأخيرة التي اتخذتها روسيا ما هي إلا جزء من حرب أطول أمدًا تخوضها ضد الدولار الذي ما زال العملة المخصصة لمعاملات تجارة النفط والغاز. وقد كشفت العقوبات الغربية التي فُرِضت على روسيا لضمها شبه جزيرة القرم في عام 2014 عن نقطة ضعف جوهرية في محاولة روسيا معارضة الغرب، وهي هيمنة الغرب على النظام المالي.

منذ ذلك الحين، اتخذت روسيا خطوات لتقليل تأثرها بالدولار، متنبئةً بالعقوبات واسعة النطاق التي فُرضت عليها مؤخرًا. ووفقًا لأحد التقديرات، انخفضت حصة الصادرات الروسية المقومة بالدولار من 80 بالمائة في عام 2014 إلى حوالي النصف اليوم. في نفس الفترة، خفَّض البنك المركزي الروسي احتياطاته من الدولار إلى النصف، وتحوّل إلى اليورو واليوان وغيرهما من العملات الأخرى. وبحلول عام 2019، كانت روسيا تحتفظ بربع إجمالي احتياطات اليوان العالمية.

لكن إسقاط الدولار من على عرش العملة الاحتياطية العالمية ليس شيئًا يمكن أن يحدث بين عشية وضحاها، وليس شيئًا يمكن أن يحققه بلد واحد؛ فمعركة روسيا الطويلة ضد الدولار هي تمرد أكثر منها حرب.

لكنها تمرد بدأ بالفعل، تمرد تمثّل فيه الصين الداعم الرئيسي لروسيا. على مدار سنوات، سعت روسيا والصين إلى إبعاد نفسيهما عن الدولار في محاولة تُعرف باسم «إزالة الدولرة»، واتخذ البَلدان خطوة كبيرة في هذا الاتجاه في عام 2019 عندما اتفقا على إجراء كل الأعمال التجارية بينهما بعملتيهما. لذا، فقد يدفع الضرر السريع الذي لحق بالاقتصاد الروسي بكين إلى التساؤل عما إذا كان بإمكانها تحمل عقوبات مماثلة — إذا سعت، على سبيل المثال، إلى الاستحواذ على تايوان بالقوة — وما إذا كانت بحاجة إلى التحرك على نحو أسرع.

بيد أن تخيل عالم ما بعد الدولار أسهل من خلقه، خاصةً بالنسبة للصين التي لا تسعى فقط إلى استبدال الدولار كعملة احتياطية عالمية، وإنما أيضًا لتحل محل الولايات المتحدة كقوة عظمى عالمية. تاريخيًّا، سعت الصين إلى الهدفين معًا، لكن هذا الهدف المتعلق بالدولار لا يمكن تحقيقه دون اضطرابات سياسية هائلة — اضطرابات قد لا تكون الصين نفسها مستعدة لها.

إنَّ تاريخ العملات العالمية محدود إلى حد ما. ففي العصر الحديث، لم يشهد هذا النظام في الواقع سوى تغيير واحد، وهو تجاوز الدولار الأمريكي الجنيه الإسترليني بعد الحرب العالمية الثانية — وحدث ذلك حينذاك فقط لأن بريطانيا كانت مثقلة بالديون بسبب حربين مدمرتين خلال أربعة عقود. وفي حال تجاوز اليوان الدولار، سيحدث تغيير مماثل، ومن المستبعد أن تفلت الصين من العواقب.

لدى بكين أيضًا تصور مختلف تمامًا عن كيفية الاستيلاء على القوة العظمى دون غزو عدة دول. وبقدر ما قد ترغب بكين في الانتقال إلى عالم ما بعد الدولار، فإنها ما تزال — إلى حد أكبر بكثير من روسيا — مرتبطة بالنظام التجاري العالمي الذي أسسه الغرب.

ستحتاج بكين أيضًا إلى إقناع الآخرين بالانضمام إليها؛ فلا يمكن أن يحدث الانتقال إلى عالم ما بعد الدولار إلا بتبني واسع النطاق لعملة أخرى. وحتى الآن، يبدو أن عددًا قليلًا من الدول الأخرى مهتمة بذلك (باستثناء إيران التي تخضع بدورها لعقوبات مشددة من الغرب). وما تزال الغالبية العظمى من التجارة العالمية تُجرَى بالدولار أو اليورو أو الجنيه الإسترليني.

بوضع كل تلك العوامل في الاعتبار، نجد أن التحول بين عشية وضحاها من عملة عالمية إلى أخرى أمر مُستبعَد. وما هو أكثر ترجيحًا أن يحدث هو تحول تدريجي إلى نظام مالي متعدد الأقطاب، نظام تلعب فيه عملات أخرى مثل اليورو واليوان، وكذلك الذهب أو العملة الرقمية التي تم إنشاؤها حديثًا والمدعومة من الدولة، دورًا مهمًا.

هذا الاحتمال يعني أن المالك الحالي للعملة الاحتياطية العالمية بحاجة إلى توخى الحذر؛ فقد تتأثر واشنطن بالعقوبات المكثفة على روسيا لما سيعطيه ذلك من وزن إضافي لليورو، الأمر الذي سيرحب به الأوروبيون. لذا، يتعين على أمريكا أن توازن بين معاقبة روسيا وعدم خلق دوافع لتبني عملات منافسة على نطاق أوسع.

قد لا تكون روسيا قادرة على نثر بذوق الشقاق في التحالف عبر الأطلسي باستخدام الروبل كسلاح، ولكن احتمالية أن يلعب اليورو دورًا أكبر قد يغري البلدان الأوروبية فيما فشلت التهديدات في تحقيقه.

 

فيصل اليافعي يعمل حاليًا على تأليف كتاب عن الشرق الأوسط، وهو معلق دائم في شبكات الأخبار التلفزيونية الدولية. عمل لوكالات أنباء عديدة مثل «ذا غارديان» و«بي بي سي»، وقدم تقارير إخبارية عن الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: