وصلت نسبة التضخم في تركيا خلال شهر سبتمبر إلى 25%، متجاوزة جميع التوقعات المتشائمة، وهي النسبة الأعلى على مدار 15 عامًا، وزادت نسبة التضخم بصورة هائلة، بينما توقّف معدل النمو، وباتت تركيا بمثابة “أرض الركود التضخمي”، والواقع أن حدوث التضخم والركود في آن واحد يعُد بمثابة كارثة بالنسبة لأي أمة، ومن الواضح أن أداء الاقتصاد التركي سوف يشهد الكثير من الانهيار قبل أن يكون هناك أي أمل في التحسُن، وفي غضون ذلك، فإن هؤلاء الذين يبحثون عن ضوء في أخر النفق يجب عليهم تهيأت أنفسهم لاحتمال حدوث نقاط تحول في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية.

والواقع أن الارتفاع الهائل والغير مُتوقّع الذي شهدته نسبة التضخم يعني أن البنك المركزي التركي تحرّك مُتأخِرًا في محاولته للحفاظ على استقرار السعر، وقام البنك المركزي برفع الفائدة على القروض بنسبة 6% خلال الشهر الماضي، وباتت مصداقية البنك المركزي التركي في الحضيض، وهذا ليس بالأمر الغريب، خاصة حينما قرر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الاستمرار في بذل اقصى الجهود من أجل تشويه سُمعة البنك المركزي، وقام أردوغان أيضًا بإلقاء اللوم على الولايات المتحدة بسبب ما وصفه بالحرب التجارية التي تشنها على بلاده.

لكن السياسة المُتعصِبّة ضد الولايات المتحدة عادت لتنتاب أردوغان هذا الأسبوع حينما قام بإلغاء الخطط التركية الخاصة بالعمل مع شركة الاستشارات الأمريكية ماكنزي McKinsey.

وكان وزير المالية التركي “بيرات البيرق” وهو صهر أردوغان، قد أعلن عن الوصول إلى اتفاق مع شركة “ماكنزي” خلال الشهر الماضي، في محاولة منه لجذب المستثمرين الأجانب مجددًا إلى تركيا، وقد رفض أردوغان التوسُل لصندوق النقد الدولي طلبًا للمساعدة، لذا كانت هناك خطة بديلة وهي العمل مع شركة ماكنزي من أجل إرسال رسالة للأسواق الدولية مفادها أن تركيا مفتوحة للعمل وأنها مكان آمن يمكن الاستثمار فيه، لكن المعارضة التركية هاجمت تلك الخطة، وسخرت من التناقُض الذي يعاني منه أردوغان، حيث أنه يعقد اتفاقًا مع رمز من رموز الرأسمالية الأمريكية بينما يلقي باللوم على الولايات المتحدة فيما يخُص الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها تركيا، وخلال نهاية الأسبوع أظهر أردوغان بادرة للضعف وهو شيئ نادر، حيث أعلن عن تجميد العمل مع شركة ماكنزي.

وبما أن الاقتصاد التركي أصبح في حالة تدهور مستمر، فقد بات على أنقرة البحث عن سبل لتحسين العلاقات مع كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، فالأمم الأوربية تحظى بنصيب الأسد من الاستثمارات على الأراضي التركية، أما الولايات المتحدة فتمتلك مقاليد الأمور داخل صندوق النقد الدولي الذي ستلجأ تركيا إليه في نهاية المطاف.

لذا فإن زيارة أردوغان إلى برلين التي تمّت في وقت مبكر من هذا الشهر كانت بمثابة خطوة في الاتجاه الصحيح للقضاء على العزلة المتنامية التي تعاني منها تركيا في الغرب، وعلى الرغم من أن تلك الزيارة لم تسفر عن نتائج اقتصادية أو سياسية ملموسة؛ فإن الرمزية المتمثلة في استقبال أردوغان في ألمانيا (أكبر اقتصاد أوربي)، على الرغم من التوتر في العلاقات الثنائية، بمثابة حدثًا هامًا بالنسبة لأردوغان، من أجل إظهار القوة المتنامية التي تشهدها العلاقات الجيوستراتيجية مع برلين. وبدلًا من أن يستثمر اردوغان تلك الزيارة ويقوم بالإعلان عن إصلاحات هيكلية، فقد أعلن أن تركيا ستقرر مستقبلًا ما إذا كانت ستقوم بعمل استفتاء على الانضمام لعضوية الاتحاد الأوربي من عدمه، ولم يستطع مقاومة نزعة الظهور بمظهر الشعبوية

وبينما باتت التطورات على الجبهة الأوربية غير مشجعة لتركيا؛ فإن هناك أحداث تقترب بسرعة قد تكون بمثابة نقاط تحول حيوية فيما يخُص العلاقة بين أنقرة وواشنطن، والتاريخ الأهم هو الثاني عشر من أكتوبر، حينما تقوم إحدى المحاكم التركية بتحديد مصير القس “أندرو برونسون” الذي قضى مُعظم العامين الماضيين في السجون التركية، وقد كانت السلطات التركية قد اتهمت برونسون دون دليل بأن له علاقات مع الانفصاليين الأكراد وجماعة فتح الله جولن الدينية، وتعتقد الحكومة التركية أن فتح الله جولن هو العقل المدبر للانقلاب الفاشل الذي شهدته البلاد في العام 2016.

وقد كانت العقوبات التجارية التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على أنقرة في أغسطس الماضي بمثابة محاولة للضغط على تركيا من أجل الإفراج عن برونسون، مما أسفر بالتبعية عن انهيار الليرة التركية، وقد كانت العلاقات بين أردوغان وترامب جيدة قبل تلك النكبة، وربما أساء أردوغان تقدير أهمية قضية برونسون بالنسبة لترامب ونائبه “مايك بنس”، وواشنطن تعلم جيدًا أن أردوغان يسيطر على القضاء التركي وأنه إن أراد سيبعث بالقس برونسون على أول طائرة إلى موطنه بالولايات المتحدة، لذا فإن الكرة باتت في ملعب أردوغان إذا ما أراد أن يصلح العلاقات مع ترامب.

وهناك تاريخ آخر هام هو الخامس عشر من أكتوبر، وهو الموعد النهائي المحدد لتركيا من أجل إنشاء منطقة منزوعة السلاح في إدلب بالشمال السوري، وهو الوعد الذي تم الوصول إليه في اتفاقية اللحظات الأخيرة مع روسيا، والواقع أن من مصلحة الولايات المتحدة تفادي وقوع كارثة إنسانية في إدلب، وهي أخر المعاقل التي يسيطر عليها الثوار المناهضون لبشار الاسد، ومن جانب أخر ليس مضمونًا ما إذا كانت تركيا قادرة على الوفاء بالوعد، وفي حال فشل أنقرة في إنشاء المنطقة منزوعة السلاح بإدلب فسيسفر ذلك عن مشكلات في العلاقات بين موسكو وأنقرة مما سيدفع بالأخيرة إلى مزيد من التقارب مع حلفائها التقليديين في الغرب.

وإذا لم تكن جميع الأحداث السابقة كافية لتعقيد الموقف، فهناك المأساة العجيبة الخاصة باختفاء الصحفي السعودي المنشق بعد دخوله القنصلية السعودية في مدينة اسطنبول، وقامت السلطات التركية بتسريب نتائج غير رسمية للتحقيقات تدّعي أن “جمال خاشقجي” قد تم اغتياله داخل القنصلية السعودية بإسطنبول، وقد أنكرت الرياض تلك الاتهامات، وحتى الآن فإن واشنطن لا تميل إلى أخذ الاتهامات التركية على محمل الجد وهذا لسببين: الأول هو التوتر في العلاقات بين الرياض وأنقرة بسبب دعم الأخيرة لقطر، والثاني هو تاريخ تركيا المشكوك فيه فيما يخُص حبس الصحفيين.

والوقت وحده كفيل بالكشف عن صحة أو خطأ الموقف التركي، ولكن من الآن فإن تركيا لم تعُد معيارًا أساسيًا للمصداقية، ويجب على أردوغان ألا يلوم إلا نفسه فيما يخُص تشويه سُمعة تركيا، وإذا لم ينجح قادة البلاد في تحديد من هو المسئول؛ فإن انهيار الاقتصاد التركي سوف يستمر.

AFP Photo/BULENT KILIC

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: