طالما كانت عملية الاستقطاب بين الإسلام والعلمانية عنوانًا للسياسة التركية، لكن على الرغم من الرواج الذي تتمتّع به تلك العملية في أوساط النخب الإعلامية، فإن تلك الازدواجية الفكرية تؤدي فقط إلى السطحية في التفكير، والكسل فيما يخُص تحليل طبيعة الدولة التركية، والأهم هو أن تلك العملية لم تعُد قادرة على تعريف الطبيعة المعقدة للسياسة، لذا فإن الوقت قد حان للتخلّي عن هذا النموذج المبتذل، فنحن نحتاج الى خطابًا سياسيًا دقيقًا من أجل فهم الوضع التركي، ومن أجل الوصول لتلك الغاية، فإن القومية التي تعُد الدافع وراء الشعبوية الدولية من الممكن أن تقدم لنا بديلًا جيدًا.

والرئيس رجب طيب أردوغان غالبًا ما يتم تصويره على أنه شخص منبوذ ينتمي للتيار الإسلامي، وأنه مصمم على تدمير الإرث العلماني والديمقراطي الخاص بمؤسِس الجمهورية التركية “مصطفى كمال أتاتورك”، وتلك الحكمة القديمة تعُد إطارًا للعادات التركية الضاربة بجذورها والقائمة على السيادة الوطنية، وكي نكون واضحين، فخلال العصر الحالي الذي يتسم بالهوية السياسية وصدام الحضارات، فإن الإسلام لازال أحد عوامل الاستقطاب السياسي في تركيا، لكن لو أنك قمت بإلقاء نظرة الى ما وراء الاحداث، فسترى عدد من الشخصيات الذين يتسمون بالغرابة، وأن هناك قوى تعمل على التآمُر بطريقة ممنهجة.

وأوضح مثال على تلك الحالة هو التحالف بين أردوغان وكل من الحركة القومية والتيار العلماني داخل الجيش، والأكيد أن أردوغان هو شخص متدين محافظ لديه ميول إسلامية، ولكن فوق كل هذا، فهو الشخص الذي ينتمي للقومية الشعبوية، وهو الذي لديه شك فيما يخُص احتضان إرث “أتاتورك” وهو ما يُعرف بال”كماليزم”، كل ذلك من أجل السيادة الوطنية.

ولهذا فقد حان الوقت لاستبدال الصراع الثنائي (الإسلام مقابل العلمانية) بالمحرك الحقيقي وراء السياسة التركية: القومية التركية التي تعُد نقطة الالتقاء، بديلًا عن الخلاف بين الإسلاميين والعلمانيين.

ونظرية الازدواجية التي تتمثّل في (الإسلام مقابل العلمانية) لن تساعد على فهم طبيعة الحرب الوجودية التي اندلعت بين حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي له أردوغان وبين الجماعة الدينية السرية الخاص ب”فتح الله جولن”، وبعد كل هذا، فإن ما حدث يعُد اقتتالًا بين أفراد المعسكر الإسلامي، ولا يمكن رؤية هذا النزاع سوى في صورة صراع على القوة سيفتح الطريق أمام الاستبداد كي يحكم تركيا.

وبالمثل، فإن حسن الطالع من الممكن أن يجعلنا نفهم المشكلة الحساسة التي تمر بها البلاد، وهي الصراع التركي – الكردي، وذلك في ضوء الصراع الثنائي بين الإسلام والعلمانية، فالدافع الأهم وراء هذا الصراع لا يتعلّق بالدين، بل أن مبعثه القومية: حالة من الصدام بين القومية التركية والقومية الكردية.

وتلك الآليات من الممكن تطبيقها على السياسة الخارجية، فالمشكلة التركية مع الاتحاد الأوروبي لا تتعلّق بالإسلام، بل أنها نتاجًا لرد الفعل الأوروبي على السياسة القومية الاستبدادية التي ينتهجها أردوغان، وكذا رد الفعل التركي الذي جاء في صورة غضبة قومية، وبالمثل فإن المشكلة الرئيسية فيما يخُص العلاقات التركية – الأمريكية تتمحور حول مصطلح القومية: الاستياء التركي من دعم واشنطن لأكراد سوريا.

ومن أجل فهم واضح للصراع الثنائي بين الإسلام والعلمانية؛ كمنطلق لتحليل آليات السياسة التركية، فإن المرء يحتاج إلى تعريف العلمانية التركية بكل وضوح، وطالما كان يُنظر لتلك المسألة بصورة سطحية، مبنية على المظاهر الخارجية والأشياء التي تتعلّق بنمط الحياة، وذلك عبر النظر إلى ما يرتديه أو يتناوله المرء أكثر من النظر إلى أفكاره، لذا فإن ارتداء غطاء الرأس واستهلاك المشروبات الكحولية باتت من أهم العلامات الاجتماعية التي يتم تعريف العلمانية من خلالها، وحينما ظهرت السطحية الخاصة بظاهرة العلمانية، لم يكن من الغريب وجود الكثير من الأفكار المشتركة بين العلمانيين والتيار الإسلامي، والواقع أن الطرفين على اتفاق تام فيما يتعلّق بالقضايا الحاسمة التي تخُص تلك العلاقة، مثل الاتفاق على أن الجمهورية التركية هي دولة إسلامية تخُص الأتراك السُنّة.

والواقع أن جزئًا مهمًا من المشكلة يتعلّق بأن العلمانية في صورتها التركية لا يمكن أن تقر بالفصل بين الدين والدولة، والعلمانية التركية فشلت بشدة في تكوين دولة تتسم بالنزاهة فيما يخُص التعامُل مع المجتمعات الدينية المتنوعة، ومنذ ظهور “العلمانية” التركية وحتى يومنا هذا، فإن الجمهورية التركية العلمانية كانت عبارة عن جمهورية سُنِيّة مسلمة، حيث تتعرّض فيها المجتمعات غير السُنِيّة (والتي تسمى بالمجتمعات العلوية) وكذا المجتمعات غير الإسلامية للتفرقة العنصرية الممنهجة.

لذا فإن الأصل الجيني للجمهورية التركية ليس مبنيًا على العلمانية الحقيقية، وبدلًا من ذلك فهي مبنية على الأمة التركية، وكذا فهي مبنية على ثلاثة مآسي تاريخية، وهي الحضارة الإغريقية في منطقة الأناضول، والمذابح ضد الأرمن، وإنكار الهوية العرقية الكردية، وفي هذا الإطار، فإن القصة الخيالية الخاصة بالإسلام مقابل العلمانية فشلت في تعريف القوة غير المركزية التي قامت بتوحيد الغالبية من الشعب التركي، كما فشلت في تعريف النظام السياسي التركي، والقانون الأساسي للدولة التركية، التي باتت دولة قوميًة معتدلًة.

والواقع أن التزاوج بين التيارين القومي والمحافظ من الممكن أن يمدنا بالأيديولوجية الرسمية الحقيقية الخاصة بالجمهورية التركية: تركيبة تركية إسلامية باتت واضحة بشكل رسمي بعد الانقلاب العسكري الذي شهدته البلاد في العام 1980، وحينها بدأ الجنرالات في تبنّي فكرة القومية الإسلامية بديلًا عن العلمانية والقومية الكردية، ومن ثم فإن تبنّي أردوغان لفكرة “الكماليزم” باتت في انسجام مستمر مع تقاليد الدولة الاستبدادية التي تتبع التيار القومي المحافظ، وبات هناك تحالف أبدي بين ظاهرة “الكماليزم” والعثمانيون الجدد، ومن ثم باتت هناك رغبة في الاستقلال التام، والسيادة التامة، والقوة الوطنية التي يمكن من خلالها مواجهة “الإمبريالية” الغربية، التي يُنظر إليها باعتبارها شكل جديد من أشكال المسيحية الصليبية.

والواقع أن عملية المؤامرة هي مصطلح شائع بين أتباع أتاتورك والعثمانيون الجدد، والطرفين دائميّ الشكوى من القوى الشريرة الأمريكية والأوروبية التي تصر على تدمير تركيا، وكل من الإسلاميين والعلمانيين متفقون على أن هناك قوى ظلامية تدعم الحركات الانفصالية الكردية، كما تدعم فكرة أرمينيا الكبرى، والمحاولات الواضحة لإخضاع تركيا اقتصاديًا، كما أن التواطؤ الأمريكي الأوروبي مع فتح الله جولن يعُد سببًا من أسباب التقارُب بين أردوغان وأنصار أتاتورك.

وانطلاقًا من هذا المنظور، فإن تحالف أردوغان مع اليمين الذي يخشى التدخلات الأجنبية، وكذا مع التيار العلماني المتشدد داخل الجيش، هو تحالف أكبر من المصالح الانتهازية، بل هو الوضع العادي للجمهورية التركية، وانطلاقًا من هذا المنظور، فإن تركيا باتت لاعبًا خطرًا فيما يخُص السياسة بمنطقة الشرق الأوسط، أكثر مما هو متوقع، بينما يظن أغلب الناس أن تلك العملية نتاج للتوتر بين المقدس والمدنس.

AFP PHOTO/OZAN KOSE

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: