كثيرًا ما يعج التاريخ بالمفارقات الغريبة. وبعد مرور عقود من الآن، سيتزامن على الأرجح ذكرى صعود تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وسقوطها مع ذكرى صعود الآمال الكردية وسقوطها في إنشاء دولتهم. وأن تواجه تلك الطموحات الكردية في الاستقلال في سوريا والعراق نفس مصير تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، يعد، بالطبع، سخرية ذات أبعاد مأساوية للأكراد.
ولنكن واضحين: لا يوجد قطعًا، من وجهة نظر القومية الكردية، ما يدعو للندم على سقوط تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”. ولكن ما حدث بعد الهزيمة الإقليمية لما يسمى بدولة الخلافة – أولاً في العراق مع سقوط الموصل، ولاحقاً في سوريا مع سقوط الرقة – لم تسفر عن النتائج الإستراتيجية التي توقعها الأكراد.
وخلال كفاحهم البطولي ضد القوة الصاعدة المتمثلة في تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، خلال الفترة ما بين عامي 2014 و2017، كان الدعم الغربي للأكراد لا حدود له. ولكن بمجرد رحيل تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، تحول هذا الدعم إلى خيانة محبطة، حيث اكتفت أمريكا وأوروبا بمشاهدة أنقرة وهي تلاحق الأكراد في سوريا هذا العام، وفعلت بغداد الشيء نفسه في كردستان العراق في عام 2017.
وبعد كل هذا، ربما كان من الواجب على الأكراد أن يعرفوا أن تاريخهم مليء بمثل هذه الخيانات. ورغم ذلك، من الواضح أيضًا أنه لم يكن أمام الأكراد بدائل أفضل.
وشكل صعود تنظيم الدولة الإسلامي “داعش” تهديدا وجوديا للأكراد، وكذلك فرصة إستراتيجية لهم. فالسلام مع تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” لم يكن مجرد خيارًا. فمن عدة جوانب، كان الأكراد يدافعون عن أراضيهم أكثر من المصالح الغربية.
وبين عامي 2014 و2016 سارت الأمور على ما يرام بالنسبة للأكراد. وفي أواخر عام 2017، بدا أن الأكراد العراقيين والسوريين على وشك صنع التاريخ إذ بدا أن إقامة دولتهم أصبح حقيقة في متناول اليد.
وفي العراق، كانت حكومة إقليم كردستان مصممة على تتويج مكاسبها الإقليمية الهامة بإعلان الاستقلال. وبعد وقت قصير من الصدمة التي تلقاها العالم في العام 2014 بسبب غزو الموصل، ثاني كبرى المدن العراقية، على يد جحافل تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، استولت قوات البشمركة التابعة لحكومة إقليم كردستان على محافظة كركوك الغنية بالنفط في شمال العراق.
وأصبح الإقليم متنازع عليه، ويطالب به كلٌ من الأكراد والعرب. غير أن افتقار الجيش العراقي إلى الكفاءة لم تمنح بغداد أي خيار سوى قبول السيادة الكردية على كركوك. والبديل الآخر الوحيد كان تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”. ومع تبعية كركوك الآن لحكومة إقليم كردستان، شعر الأكراد بأن التاريخ في النهاية إلى جانبهم. وشعروا أيضًا أنه يتعين عليهم تعزيز مكاسبهم قبل أن يتمكن الجيش العراقي من تعزيز صفوفه مرة أخرى.
وأصبحت الحاجة إلى تصرف سريع أكثر وضوحًا بعدما استعادت القوات العراقية، بدعم من الميليشيات الشيعية الموالية لإيران، الموصل من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في أوائل عام 2017. وكان هذا هو السياق الذي دفع حكومة إقليم كردستان إلى اتخاذ قرارها المصيري بإجراء استفتاء من أجل الاستقلال عن العراق في سبتمبر من تلك السنة.
وفي الوقت نفسه تقريبًا، وعبر الحدود، كان نجم الأكراد السوريون بازغًا. وبفضل تعاونهم مع القوة العظمى الأمريكية ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، شعرت وحدة حماية الشعب (YPG) بالثقة في أن واشنطن ستكافئها على إلحاق الهزيمة بدولة الخلافة بدعم استراتيجي لمنح الإقليم الكردي حكمًا ذاتيًا.
وثمة فرق بعد مرور عامين. واليوم، وبعد هزيمة داعش إلى حد كبير، لم يتبق شيء مما وصفه الأكاديمي والكاتب في موقع “Syndication Bureau”، هنري باركي، بالـنهضة” التي تمتع بها الأكراد في منتصف عام 2017. وبعد إعطاء تركيا الضوء الأخضر لتتوغل عسكريًا في شمال سوريا، فإن واشنطن والجيش الأمريكي في طريقهما للخروج من سوريا، وترك الأكراد السوريون يقاتلون وحدهم – من أجل البقاء وليس من أجل إقامة دولتهم.
وفي العراق، انتهى الأمر بحكومة إقليم كردستان بأن تدفع ثمن غطرستها في العام 2017 باهظًا. وفي أعقاب القرار الجريء والكارثي في نهاية المطاف بخصوص إجراء استفتاء على الاستقلال، فقد الأكراد “40%” من الأراضي التي كانت تحت قبضتهم، بما في ذلك كركوك. وبعد سنوات من الكفاح ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، اتضح أن الخسائر أكبر من المكاسب التي حققها أكراد سوريا والعراق.
ومع ذلك، لم تفقد القضية الكردية كل ما تملك. فعلى النقيض، تسير عملية بناء الأمة الكردية طويلة الأجل على قدم وساق. ولا يعد يشعر السواد الأعظم من الأكراد بأنهم جزءًا من تركيا أو إيران أو العراق أو سوريا. وعلى الرغم من أن الأكراد مازالوا منفصلين جغرافياً داخل تلك البلدان الأربعة، إلا أنهم يعتبرون أنفسهم على نحو متزايد بأنهم جزءًا من دولة كردية أكبر، وفي تواصل مع بعضهم بعضًا بفضل وسائل الإعلام الكردية سريعة النمو.
ونتيجةً لذلك، فإن الوقت والأرقام في صالح الـ”30″ مليونًا كردي الذين اكتسبوا، خلال العقدين الأخيرين، مستوى غير مسبوق من الوعي العرقي كأكبر أمة في العالم بدون دولة. وهناك أيضًا الأكراد الفعالين المشتتون في أوروبا والذين ينشطون سياسيًا، ويندمجون من الناحية الاجتماعية، ويستثمرون فكريًا طلبًا للهوية الكردية.
ولا شك في أن كردستان الكبرى المستقلة والموحدة لن تظهر على الأرجح في أي وقت قريب. ولكن كما اتضح من صعود تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، فإن العراق وسوريا دولتان ضعيفتان، وما زالتا كذلك. وأصبحت حكومة إقليم كردستان على مقربة أكثر من أي وقت مضى من تحقيق حلم الاستقلال، ومن المرجح ألا تتخلى عن حلمها في الوقت الراهن.
وفي سوريا، ستواصل وحدات حماية الشعب السعي لتحقيق الحكم الذاتي. بل إن في تركيا، موطن نصف الأكراد في الشرق الأوسط، تزدهر السياسة الكردية على الرغم من كافة أشكال الضغوط السياسية والظلم الذي يتعرض له الأكراد. ولا يفوز أكراد تركيا بالانتخابات في مناطقهم فحسب، بل اصبحوا أيضًا من الشخصيات الفعالة في السياسة التركية بصفتهم ثالث أكبر حزب سياسي في البلاد.
وأخيراً، دعونا لا ننسى أنه بفضل بطولتهم ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، اكتسب الأكراد شرعية وشعبية عالمية غير مسبوقة.
وربما لا تزال الحكومات الغربية تخدع الأكراد باسم السياسة الواقعية والمصالح الجيوستراتيجية، غير أن الرأي العام الغربي، في كل من أوروبا والولايات المتحدة، يساند بالتأكيد القضية الكردية. وفي البلدان الديمقراطية، يعد كسب القلوب والعقول أفضل أنواع الاستثمار للمستقبل. سيكون هناك المزيد من الفجر الزائف، ولكن بالنسبة لمعظم الأكراد، فإن إقامة دولة هي مجرد مسألة وقت.
عمر تاسبينار، زميل بارز لدى معهد بروكينغز، وأستاذ إستراتيجية الأمن القومي في جامعة الدفاع الوطني في واشنطن.