قبل أكثر من عام فقط، وفي الذكرى السنوية الخامسة لغرق اللاجئ السوري آلان الكردي الذي كان يبلغ من العمر ثلاث سنوات، تساءلت في إحدى مقالاتي المنشورة حول وفاته المروعة وحول احتمال أنها لم تذهب أدراج الرياح.
ربما، فكرت بسذاجة، أن نهايته المروعة، التي تنقلها بقوة الصور المفزوعة لجسده الصغير وهو منكب على وجهه بجوار شاطئ في مدينة بودروم بتركيا، تلك النهاية قد تنقذ الآخرين من نفس المصير.
ولكن من المؤسف أنني فكرت من دون الأخذ بعين الاعتبار إصرار الساسة والحكومات على التمسك بالسلطة من خلال التعامل مع أسوأ ما في الطبيعة البشرية.
وفي الأسبوع الماضي، وصلت الوفيات في مياه القناة الإنجليزية بين اللاجئين إلى رقم كبير لم يسبق له مثيل إلا في أعداد ضحايا البحر الأبيض المتوسط، والقناة الإنجليزية هي الحاجز الأخير الضيق، ولكن كبير الحجم أمام المهاجرين الذين يأملون في الوصول إلى ما يرونه بالأرض الموعودة أو بريطانيا.
وقد غرق 27 شخصًا كانوا يحاولون العبور من فرنسا إلى المملكة المتحدة قبالة الساحل الفرنسي عندما غرق قاربهم المطاطي الهش، وكان من بين الضحايا سبع نساء، إحداهن حامل وثلاثة أطفال.
وبذلك يرتفع عدد طالبي اللجوء الذين غرقوا في القناة على مدار العشرين عامًا الماضية إلى ما يقرب من 350 شخص، من بينهم 36 طفلاً. وأكثر ما يلفت الانتباه في هذه المأساة هو ردة فعل كلا الحكومتان اللتان كان من الممكن أن تمنعا تلك المأساة، حيث لم يركزا على التعاون لمنع حدوث تلك الكارثة مرة أخرى، بل تبادلا اللوم في مسعى لتحقيق أجندات سياسية محلية.
وأخفقت الحكومة الفرنسية هذا العام في منع 25000 شخص من المخاطرة بحياتهم من خلال عبورهم القناة في قوارب صغيرة، إما عن طريق منعهم من الإبحار أو عن طريق تفكيك عصابات مهربي البشر التي تعمل دون عقاب في فرنسا.
وظهرت صور في الأسبوع الماضي لضباط شرطة فرنسيين يقفون متفرجين ويراقبون قارب هوائي وهو ينطلق إلى الشاطئ بالقرب من مدينة كاليه، وكان على متن ذلك القارب أكثر من عشرة بالغين وستة أطفال تتراوح أعمارهم بين ثلاثة وسبعة أعوام
وبالنسبة للفرنسيين، وللاتحاد الأوروبي، فلا توجد فائدة في تخفيف أعباء بريطانيا في مرحلة ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، خاصة تلك الأعباء المتعلقة بشكل مباشر بتعهد “استعادة السيطرة على الحدود ” وهو الذي تعهد به مؤيدي ومناصري خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي والمعادين والكارهين للأجانب والفائزين بالاستفتاء.
ولا يريد الاتحاد الأوروبي أن تبدأ الدول الأوروبية الأخرى في التفكير في أن بريطانيا قد اختارت الخيار الصحيح بخروجها من الاتحاد.
وبعد حادث الأسبوع الماضي، تعهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن “فرنسا لن تسمح للقناة أن تتحول إلى مقبرة” متجاهل حقيقة أنها فعلاً صارت مقبرة. وبعد ذلك، وبعد أن دعا ماكرون لعقد اجتماع طارئ للحكومات، بما في ذلك الحكومة البريطانية، هاودت فرنسا ناخبيها الساخطين من بريطانيا من خلال تجاهل دعوة وزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتيل.
واستهجن الفرنسيون التوبيخ العلني غير الدبلوماسي وغير العادي الذي نشره رئيس الوزراء بوريس جونسون على وسائل التواصل الاجتماعي.ولا يُعرف جونسون بتمكنه من الطرق الدبلوماسية، ولكن هذا وحده لا يفسر لماذا رأى أن من الجيد أن ينشر مطالبه علانية، وهي الخاصة بقيام فرنسا بدوريات مشتركة مع جنود بريطانيين وأن توافق فرنسا على إعادة أي مهاجر عبر القناة.
ولم تكن تلك دبلوماسية، بل كانت بمثابة التلويح العلني بالشعار الانعزالي من قِبَل حكومة تتعرض للضغوطات اليومية في شكل ادعاءات بالفساد وعدم الكفاءة، وكانت محاولة يائسة للبرهنة للناخبين المحبطين أن خروج بريطانيا من أوربا كان له فائدة حقيقية.
ومن ناحية أخرى، كانت بريتي باتيل تتعرض لضغوط متزايدة من جانب أعضاء البرلمان المحافظين اليمينيين من أجل “الصرامة” في التعامل مع المهاجرين غير الشرعيين، وهو الهدف الذي تبنته بحماس.
إن فتح طرق آمنة إلى المملكة المتحدة للمهاجرين من شأنه بالطبع أن يدمر الأعمال التجارية لمهربي البشر بين عشية وضحاها، لكن هذا من شأنه أن يزعج الكثير من الناخبين المحافظين ونوابهم. والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن باتيل اقترحت في وقت من الأوقات تشريعًا من شأنه أن يجرم أي شخص يقوم بمساعدة من يحاول العبور بشكل غير قانوني إلى المملكة المتحدة عن طريق القوارب، والعقاب هو السجن لمدة تصل إلى 14 عامًا.
ومن غير المستغرب، أن المعهد الملكي الوطني لقوارب النجاة قد فزع من ردة الفعل المفاجئة، وهو المعهد الذي يحظى باحترام كبير كونه يساعد آلاف اللاجئين الذي يواجهون الصعوبات في القناة.
وفي هذه الأثناء، بينما يتشاجر “الكبار” في أوروبا ويتحاورون لتحقيق مكاسب سياسية، يغرق الأطفال، وبينما يغرق الأطفال، لا يركز أحد على أسباب مشكلة الهجرة البريطانية. ومن المحتمل أن تكون “عوامل الجذب” الأكبر والغير معترف بها، والتي تجذب المهاجرين إلى المملكة المتحدة هي اللغة الإنجليزية، التي فُرضت على معظم أنحاء العالم خلال قرون من المغامرة الإمبريالية البريطانية العظيمة.
وعندما ينظر اليائسون إلى الهجرة على أنها الحل الوحيد الممكن للتعامل مع الظروف الصعبة، فمن الطبيعي أن ينجذب أولئك الذين تمثل اللغة الإنجليزية لغتهم الثانية إلى بريطانيا. وبالنسبة للظروف التي أدت إلى الهجرة، سواء كانت اقتصادية أو غير ذلك، فيجب أن لا ننسى أن العديد من الأزمات التي خلقت هذا الوضع المتأزم في الشرق الأوسط وما وراءه تعود إلى التدخل الاستعماري البريطاني في الماضي.
والآن، مع ارتطام موجة الهجرة المتزايدة بالساحل الجنوبي لبريطانيا، فليس من المبالغة القول أن بريطانيا تستحق ذلك. فأقل ما يجب على البريطانيين فعله هو تحمل المسؤولية عن ماضيهم الإمبريالي والتصرف بطريقة غير سياسية لإنقاذ حياة أولئك الذين رمت بهم أمواج بحر التاريخ البريطاني إلى الشواطئ البريطانية.
جوناثان جورنال صحفي بريطاني، كان عمل سابقًا مع التايمز، وقد عاش وعمل في الشرق الأوسط وهو الآن مقيم في المملكة المتحدة.