أذربيجان ترصد التقارب التركي الأرميني
أثارت التصريحات التي صدرت في الأسابيع الأخيرة، والتي تفيد بأن تركيا وأرمينيا تسعيان لتطبيع العلاقات بينهما لأول مرة من فترة جيل كامل، بعض الأمل في إجراء مصالحة بين البلدين، ومن الطبيعي أن يثير البعض شيء من الشكوك حول جدوى ذلك المسعى، ولكن يبدو أن تعيين مبعوثين من كل بلد مخصصين لهذه المهمة يشكل بعض التقدم الملموس.
وفضلاً عن الاتهامات المتبادلة التي استمرت قرنًا من الزمن بين تركيا وأرمينيا، هناك عامل خارجي آخر من المرجح أن يمثل حجر عثرة أمام مسيرة التصالح بين كلا الجانبين، وهو حاجز بحجم العاصمة باكو والذي يقف بشكل مباشر بين أرمينيا وتركيا.
ويعرف الجميع العداء طويل الأمد بين الجانبين، فمن غير المرجح أن يكون لدولة ما علاقات جيدة مع دولة حلت محل سلطنة ارتكبت إبادة جماعية ضد شعبها، وخاصة عندما تستمر تلك البلد في إنكار تلك المجزرة (حيث تنفي تركيا الإبادة الجماعية للأرمن التي ارتكبت في العهد العثماني) وقد وقع تقارب قصير بين الجانبين بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث عادت أرمينيا للظهور كدولة مستقلة في عام 1991، وكان ذلك التقارب قصير الأجل، حيث قطعت تركيا على الفور العلاقات الناشئة وأغلقت حدودها مع أرمينيا بعد ذلك بعامين فقط لدعم حليفتها أذربيجان في حرب ناغورني كاراباخ الأولى، وهي حالة مستمرة حتى يومنا هذا.
ووقع حدثان مهمان في العام الماضي واللذان زعزعا من الوضع القائم آنذاك، أولاً تدخلت أنقرة بدعم عسكري وسياسي كامل لأذربيجان، التي أعادت احتلال معظم الأراضي المتنازع عليها، والتي كانت تحت سيطرة القوات الأرمينية في أعقاب الحرب في أوائل التسعينيات. ولكن الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو أحد مخرجات ذلك الاحتلال، فلم تعد أرمينيا تسيطر على أي من المناطق السبع لأذربيجان حول مقاطعة كاراباخ السابقة التي كانت تحتفظ بها حتى عام 2020، وكان المنطق الرسمي الذي تبنته تركيا لقطع علاقاتها مع أرمينيا (وإبقائها على ذلك النحو) يتلخص دوماً في احتلال أرمينيا لتلك المناطق السبع، وليس صراع كاراباخ ذاته، وفجأة أصبح هذا الشرط المسبق لاستعادة العلاقات مع أرمينيا لا أساس له.
وقد تم جس النبض في وقت سابق من هذا العام، حيث أدلى عدد من المسؤولين الأتراك المقربين من الرئيس رجب طيب أردوغان بتصريحات مفادها أن تركيا مستعدة لتطبيع العلاقات مع أرمينيا، بينما كرر رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان وآخرون في العاصمة يريفان موقف أرمينيا الراسخ المتمثل في استعداد البلاد للتطبيع من دون شروط مسبقة.
ويبدو أن أمر تطبيع العلاقات قاب قوسين أو أدنى، ولكن مع وجود تحذير واحد غير معلن ومبني عليه كل آمال التقدم في هذا المسار، وهو إلى أي مدى ستهتم تركيا باسترضاء أذربيجان؟ هذا إذا احتاجت إلى استرضائها؟
وكانت استراتيجية أذربيجان منذ نهاية حرب العام الماضي تتمثل في ممارسة الضغوط الكبيرة تجاه جارتها المهزومة، وفي محاولة لإجبار أرمينيا على التخلي تمامًا عن ما تبقى من كاراباخ الخاضع لحراسة روسية والسماح بوصول غير مقيد بين أذربيجان وناختشيفان، وأغلقت أذربيجان الطريق الرئيسي بين الشمال والجنوب في أرمينيا واحتلت أجزاء من أراضيها وشنت هجمات على قلب الأراضي الأرمينية.
وأكد الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف مرارًا وتكرارًا أن “نزاع كاراباخ قد انتهى” وأن “ممر زانجيزور سيتم فتحه” وهما هدفان يأمل بوضوح أن تساعده تركيا في تحقيقهما، ومن غير الواضح ما إذا كانت تركيا مستعدة للعمل معه في تلك الاستراتيجية الاستفزازية، حيث مرت عدة أشهر دون تعليق تركي رسمي على تصرفات باكو على طول الحدود الأرمينية.
ولكن يبدو أن هذا الموضوع قد تم حسمه، حيث بدأ الدبلوماسيون الأتراك في الشهرين الماضيين إلى الإشارة لأذربيجان مرارًا وتكرارًا عند وصف التقارب المحتمل مع أرمينيا، وقدم وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو المثال الرئيسي على ذلك، من خلال تصريحاته التي أفادت أن أنقرة “ستعمل جنبًا إلى جنب مع أذربيجان في كل خطوة” في مفاوضاتها مع أرمينيا والإشارة إلى التسوية النهائية لنزاع كاراباخ (وهو أمر ليس بعيد المنال في الأفق). بالتوازي مع التقدم التركي الأرمني، ومهما حدث وراء الكواليس، فقد قررت إدارة أردوغان على ما يبدو أنها تفضل إبقاء الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف كحليف بدلاً من المخاطرة بأي تقدم جاد مع أرمينيا.
وأحبطت أذربيجان عملية التقارب بين تركيا وأرمينيا من قبل، ففي عام 2008، بدأت يريفان وأنقرة سلسلة من المفاوضات لإعادة فتح الحدود بينهما، من خلال تنظيم بعض من مباريات كرة القدم رفيعة المستوى بين الجانبين، قبل أن يؤدي الضغط الأذربيجاني على تركيا إلى انهيار تلك المحاولة، لكن هذه المرة، تشير تركيا صراحةً إلى أنها لن تتعامل مع أرمينيا بما يتجاوز الحدود التي وضعتها لها أذربيجان، مهما كانت تلك الحدود قمعية. وفي الوقت الراهن، تعتبر شروط الرئيس الأذربيجاني إلهام حيدر أوغلو علييف بالنسبة لأرمينيا بمثابة بداية واضحة لمفاوضات جادة، وهو أمر يبدو أنه غير راغب في التراجع عنه، وإذا ربطت تركيا حقًا عملية التقارب مع أرمينيا بموافقة أذربيجان، فأن ذلك التقارب سيبقى بعيد المنال.
وظهرت إشارات في الأفق بإحراز تقدم أثناء كتابة هذا المقال، لكنها إشارات غير ملزمة في نهاية المطاف، حيث اتفق رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان والرئيس الأذربيجاني إلهام حيدر أوغلو علييف على عقد قمة في بروكسل لمناقشة إعادة فتح خط السكك الحديدية الرابط بين البلدين الذي يعود إلى الحقبة السوفيتية، وهو بند آخر في اتفاق وقف إطلاق النار في العام الماضي، ولا تزال روسيا لاعب مؤثر كبير، فهي تواصل الضغط علنًا من أجل إعادة فتح روابط العبور بين أرمينيا وأذربيجان، وكذلك من أجل التطبيع التركي الأرمني، لكن حُسن نواياها لايزال في موضع شك، لأن الوضع الراهن للمنطقة يناسبها تمامًا، ولكن حتى يتم بناء روابط السكك الحديدية فعليًا عبر الحدود الأرمينية التركية أو الحدود الأرمينية الأذربيجانية، سيظل كل هذا كلامًا لا طائل منه ومجرد اتفاقيات شفهية لا تعكس أي أنجاز على أرض الواقع.
نيل هاور، محلل أمني مقيم في تبليسي، جورجيا، ويركز عمله، من بين أمور أخرى، على السياسة والأقليات والعنف في القوقاز.