تكتسي المملكة المتحدة بالخشخاش الاصطناعي مع استعداد الأمة لتخليد ذكرى قتلاها في الحربين العالميتين. وارتداء الخشخاش من مظاهر الاستعداد لـ“يوم الذكرى“، ذلك اليوم في عام 1918، والذي سكتت فيه أصوات البنادق في فرنسا معلنةً نهاية الحرب العالمية الأولى، في تمام الساعة 11 في اليوم الحادي عشر من شهر نوفمبر.
وجرت العادة أن تكون الزهور التذكارية مصنوعة من أوراق حمراء وبلاستيك أخضر. غير أن “الفيلق الملكي البريطاني“، وهي مؤسسة خيرية توزع الخشخاش، تقدم للبريطانيين طريقة أخرى لتخليد ذكرى المقتلة التي شهدتها الحربين العالميتين – وهي “دبوس” مطلي بالمينا ومدون عليه عبارة “فلنتذكر معاً“، وهو دبوس مصمم لإحياء ذكرى جنود دول الكومنولث الخمس وثلاثون، والذين فقدوا حياتهم دفاعًا عن بريطانيا وإمبراطوريتها.
وبالطبع أن يأتي التكريم متأخرا أفضل من ألا يأتي، بالرغم من أن شعار الحملة الإعلامية للفيلق – “أبطال الماضي المنسيون“؛ فلنتذكرهم اليوم” – يثير تساؤلاً محددًا، وهو: لماذا لم يتم قبل ذلك تكريم قتلى الحروب التي دارت رحاها منذ “74” و“105” عامًا مضت؟
خلال الحربين العالميتين، قُتل أكثر من 160,000 هندي، وهو رقم أكثر بكثير من الخسارة المعروفة للجميع وهي “102,843” جندي أسترالي، و“110,363” جندي كندي، وجميعهم قضوا نحبهم بالإضافة إلى “1,2” مليون بريطاني. وتظهر الصورة المصاحبة للحملة، والمقتبسة من محفوظات متحف الحرب الإمبراطوري في لندن، جنديًا بريطانيًا وعلى هيئته الامتنان ممدًا يده ليصافح قائد دبابة هندية يدعى “جمال كارنيل سينغ“، من سلاح الفرسان السابع، وذلك بعد سحق اليابانيين في معركة “إيمفال–كوهيما” في عام 1944.
ودُفن قرابة “828” جندي، أغلبهم مسلمين، في مقبرة حرب إيمفال للجيش الهندي، وعلى مقربة من المقبرة، هناك نصب إيمفال التذاكري والذي يخلد ذكرى حرق 868 هنديًا من الطائفة الهندوسية والسيخ وفقًا لمعتقداتهم. ودُفن أيضًا “1,603” قتيلاً، معظمهم من البريطانيين، بالإضافة إلى أكثر من 200 هندي تم دفنهم في مقبرة حرب “إيمفال” القريبة.
وبالطبع، من الواجب حقًا أن نتذكر التضحيات الهندية في كلتا الحربين. وهناك شيء كان غائبًا بوضوح في أحدث حملات “يوم الذكرى” وهو الجنود العرب من غرب شبه الجزيرة العربية والمعروفة ببلاد الحجاز، والذين حملوا السلاح ضد حكامهم العثمانيين بإيعاز من البريطانيين في عام 1916.
ومن ضمن المقتنيات المحفوظة في “متحف الحرب الإمبراطوري“، هناك قطعة بسيطة من القماش ملطخة بلون الدم الجاف. ويطلق عليها “الكوفية” البدوية، ويرتديها رجل من القبائل العربية والذي قاتل الأتراك أثناء الثورة العربية 1916- 1918″. ولا يوجد ما يدل على صاحب هذه الكوفية، أو مصير صاحبها. ولكن بعد ذلك، كان الاسم الأبرز في تغطية المتحف للمغامرات البريطانية في الجزيرة العربية – وهو الاسم نفسه الذي برز على المشهد البريطاني خلال أحداث القرن الماضي والتي شكلت الشرق الأوسط الحديث. ويحتفظ المتحف بجميع القطع الأثرية المتعلقة بالثورة العربية ضمن مجموعة واحدة تحمل عنوان “توماس إدارواد لورنس، والثورة العربية“.
إن دور “لورنس العرب” في هزيمة القوات العثمانية في الحجاز، وهو ما أجمع عليه معظم العلماء المعاصرين – وأكده لورنس نفسه في مذكراته بعنوان “أعمدة الحكمة السبعة” – كان مبالغًا فيه. وفي وقت لاحق، أبدى “لورنس“، وهو واحدٌ من عدة ضباط اتصال بين المقر البريطاني في القاهرة والشريف حسين من مكة، ذلك الزعيم العربي الهاشمي في الحجاز، أسفه عن دوره في خداع العرب ودفعهم إلى حمل السلاح. وكتب “لورنس“، أن الحكومة البريطانية دفعت العرب إلى القتال بجانبنا مقابل وعود محددة بالحكم الذاتي بعد ذلك.” ولكن كما سجل التاريخ، كانت تلك الوعود لا قيمة لها؛ فبعد الحرب، قسمت بريطانيا وفرنسا الأراضي العربية فيما بينهما.
اضطر لورنس “إلى المشاركة في المؤامرة، وضمن للرجال مكافئتهم. وعلى أمل الحصول على هذه المكافأة، نفذ العرب بعض الأعمال الجيدة، وكتب “لورنس” أيضًا: ولكن، بالطبع، بدلاً من أن نكون فخورين بما فعلناه معًا، “شعرت بالخجل الشديد“. و“لو كنت مستشارًا صادقًا للعرب، لكنت نصحتهم بالعودة إلى موطنهم، وعدم المجازفة بحياتهم في القتال من أجل أشياء كهذه“
لكن العرب قاتلوا، والشاهد على ذلك تلك “الكوفية” القديمة، وبعض الصور الباهتة باللون الأبيض والأسود والتي تفقد بريقها داخل المتحف البريطاني للحرب الإمبراطوري.
ومع ذلك، تم تكريم 20 جنديًا عربيًا فقط في ثلاثة مقابر من أصل “2,500” مقبرة في أنحاء العالم وتشرف عليها “هيئة الكومنولث لمقابر الحرب“. وكان الجنود العشرون جميعًا أعضاءً في الفيلق العربي، وهي قوة أنشأها البريطانيون بعد أن سيطروا على منطقة شرق الأردن في عام 1920. توفى 13 شخصًا أثناء قتالهم مع البريطانيين في الحرب العالمية الثانية، ومن توفي بين عامي 1946 و 1947، كانوا ضحايا الحملة الإرهابية التي أخرجت بريطانيا في نهاية المطاف من فلسطين وأدت إلى قيام إسرائيل. وترقد رفات هؤلاء الجنود في مقبرة الرملة، على بعد 20 كيلومتراً جنوب شرق تل أبيب، وفي مقبرة شاطئ خياط على مشارف حيفا، وفي مقبرة البوابة الشمالية ببغداد.
أما بالنسبة للآلاف المجهولين من العرب والذين لقوا حتفهم في قتالهم مع بريطانيا ضد الإمبراطورية العثمانية، فلا يوجد ما يدل عليهم – سواء في الإحصاءات أو في وعي الشعب البريطاني.
وفي الحجاز، ذاق الجيش التركي، والذي حظا بالتدريب والقيادة الجيدة، الأمرين، وتكبد أكثر من 45000 ضحية خلال الثورة العربية من الفترة 1916-1918. ولا يوجد أي سجل لحجم الخسارة التي تكبدتها الميليشيات العربية سيئة الإعداد والعتاد والتي نشأت على عجل، واندفعت إلى قتال الأتراك غير عابئة بالخطر الذي تواجهه مما أصاب “لورنس” بالذهول.
بيد أن الحس السليم يملي أن خسائرهم يجب أن تكون على الأقل نفس حجم خسائر العدو الذي أجبروه على العودة إلى أبواب دمشق، وبالتالي المساعدة في تحقيق النصر لبريطانيا في حربها في الشرق الأوسط. ومع ذلك، لم يتم تقدير تضحياتهم من الأمة البريطانية التي كان ينبغي لها أن تكون ممتنة لهم. إن عدم الاعتراف هذا يزداد سوءًا بسبب حقيقة أن هؤلاء الرجال المنسيين ضحوا بأرواحهم من أجل حليف كان يخطط طوال الوقت فقط لخيانتهم والاستخفاف بأحلامهم في دولة عربية حرة.
تم اختيار الخشخاش كرمز لمذبحة الحرب العالمية الأولى لأنه ينمو بكثافة في ساحات القتال بشمال فرنسا، وخلده الشاعر الجندي الكندي “جون مكراي“. وفي قصيدته ذائعة الصيت، كتب “جون“: “في حقول فلاندرز، تهب الخشخاش في صفوف، بين الصلبان، وهذا ما يميز مكاننا.”
قلة من الناس في بريطانيا سيعلمون أن “الخشخاش المنثور“، النوع الشائع من الخشخاش، موجود أيضًا في جميع أنحاء الشرق الأوسط، حيث تضيف ذكرى الموتى المنسيين تحريفًا مؤثرًا إلى السطور الختامية لقصيدة “مكراي” الشهيرة: “إذا كنتم تحطون معنوياتنا، فمن للموت، لن ننام، رغم أن الخشخاش ينمو في حقول فلاندرز“.
جونثان جورنال، صحفي بريطاني، عمل سابقًا لدى صحيفة “التايمز“، وقضى فترة من حياته في منطقة الشرق الأوسط وعمل بها، ويعيش الآن في المملكة المتحدة.