خلال تجمع خطابي سياسي حضرته حشود كبيرة من أنصاره، فاجأ دونالد ترامب من جديد إدارته من خلال الإعلان أن الولايات المتحدة الأمريكية ستنسحب “قريباً جداً” من سوريا. ويبدو أن ترامب لم يناقش توقيت قراره البالغ الأهمية مع مستشاريه في السياسة العسكرية والخارجية. تصريحات الرئيس الأمريكي نزلت كالصاعقة أيضاً على حلفائه في المنطقة. لكن أكثر المتضررين من انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية بصورة سابقة لأوانها هم حلفاء البنتاغون الأكراد في سوريا لما سيترتب عن ذلك من تداعيات كارثية.

لقد كانت الميليشيا الكردية المعروفة بمسمى “وحدات حماية الشعب”، والتي حظيت بتدريب ودعم الولايات المتحدة، أكثر شركاء البنتاغون العسكريين فاعلية على أرض الميدان خلال الحرب ضد “داعش”. فقد لعبت هذه القوات دوراً رئيسياً في تحرير الرقة، عاصمة ما عرف لدى “داعش” بالخلافة، ومعظم أجزاء شمال شرق سوريا. وقد كان الأكراد يأملون أن تُكافأ جهودهم من طرف الولايات المتحدة، لكن إذعان هذه الأخيرة للغزو التركي لمنطقة عفرين التابعة لـ”وحدات حماية الشعب” في شمال شرق سوريا، كان له وقع الصدمة على أكراد سوريا. أما الآن، فقد بات هذا الإذعان نذيراً بما هو أسوأ في قادم الأيام.

إذا سحبت الولايات المتحدة قوات العمليات الخاصة التابعة لها من سوريا والبالغ تعدادها 2000 عنصر، فإن التاريخ سيكون قد أعاد نفسه بشكل مأساوي بالنسبة للأكراد، فالخيانة الأمريكية ليست بالأمر الجديد عليهم. بدءاً من اتفاقية الجزائر في 1975 بين إيران والعراق، والتي أوقف بعدها هنري كيسنجر دعمه العسكري لثورة الزعيم الكردي الأسطوري مصطفى البارزاني ضد بغداد، ووصولاً إلى رفض واشنطن السنة الماضية دعم استفتاء الحكومة الإقليمية الكردية بشأن الانفصال عن العراق، لا يخلو تاريخ الأكراد من مسلسلات التعاون مع الولايات المتحدة التي باءت بالفشل بمجرد تغير السياق الاستراتيجي.

من جهة أخرى، من غير المفاجئ أن يتسبب تصريح ترامب بشماتة الأوساط التركية بالموقف الكردي. إذ ما من شك في أن أنقرة سعيدة بتكرار الأكراد نفس الخطأ المتمثل في وضع ثقتهم في الولايات المتحدة. لكن القول إن الأكراد لا يتعلمون أبداً من أخطاء الماضي فيه إفراط في تبسيط الأمور. فبالنظر إلى الواقع الجيو-استراتيجي الذي يكشف عن معارضة تركية وإيرانية وعراقية وسورية قوية لأي محاولة كردية للاستقلال، يتساءل المرء هل أمام الأكراد فعلاً بديل عن الدعم الغربي؟ كما أنه من المهم الإشارة إلى أن إعلان ترامب المفاجئ لا يُعد سياسة رسمية حتى هذه اللحظة. فالقائد العام للقيادة المركزية الأمريكية جوزيف فوتيل والمبعوث الرئاسي الخاص للتحالف ضد “داعش” بريت ماكغورك قد خالفا الرئيس الأمريكي، حيث صرحا بأن المهمة في سوريا لم تنته بعد. والأهم من ذلك، ونظراً للتأثير الكبير الذي يحظى به لدى الرئيس، يعتقد وزير الدفاع جيم ماتيس بدوره أنه لا يجب على الولايات المتحدة الانسحاب من سوريا “حتى تتم معالجة الظروف التي أدت إلى ظهور “داعش” بصورة مناسبة”.

ومع ذلك، فإنه ليس من المشجع أن نرى أن مبلغ 200 مليون دولار المخصص في ميزانية الولايات المتحدة لإعادة البناء في مرحلة ما بعد الصراع في سوريا قد تم تجميده في أعقاب إعلان ترامب. كل هذه الديناميات تخلق نوعاً من الفوضى، حيث يظل من غير الواضح كم من الوقت ستبقى القوات الأمريكية في سوريا. لكن ما نعرفه على وجه اليقين هو أن استراتيجية الإدارة الأمريكية في سوريا باتت قيد المراجعة وأن القائد العام للقوات المسلحة يريد الانسحاب بشكل سريع، مخالفاً توصية معظم مستشاريه العسكريين والاستراتيجيين.

لكن هل تكون هذه الخطوة واحدة من ألاعيب ترامب؟ فبالنظر إلى أسلوب تفاوضه ورغبته في رؤية التزام مالي أكبر من جانب السعودية وباقي دول الخليج فيما يخص إعادة بناء سوريا، فإن الأمر ليس مستبعداً. كما أن الانسحاب من سوريا دون التزام عسكري يتناقض مع توجهات مستشار الأمن القومي، جون بولتون، ووزير الخارجية، مايك بومبيو، المُعينين حديثاً والمعروفين بموقفهما الصارم والعدائي تجاه إيران. وما يزيد من الفوضى في هذه المسألة الإشارات على قرب هجوم عسكري أمريكي رداً على مزاعم باستخدام النظام لأسلحة كيميائية وقت كتابة هذا مقال. هجوم من هذا النوع سيذكر دون شك بشار الأسد وحلفاءه الروس والإيرانيين بأن واشنطن ما زالت تملك الإرادة السياسية والقدرة العسكرية لفرض خطوطها الحمراء. وفي الواقع، قد يكون ترامب الآن أكثر استعداداً لاستعراض القوة العسكرية الأمريكية حتى يظهر أن قرار الانسحاب من سوريا لا يجب أن يفسر على أنه ترخيص للأسد وإيران بالقيام بما يحلو لهما.

لكن استعراض الولايات المتحدة لقوتها العسكرية لن يهدئ كثيراً المخاوف الكردية من تعرضها للخيانة. لذلك فإن الوقت قد حان ليفكر الأكراد في خطة بديلة. إذ يتعين على أكراد سوريا الاستعداد لانسحاب أمريكي مبكر من خلال استشراف مستقبل سوري تصبح فيه إيران وروسيا وتركيا أهم القوى الفاعلة الخارجية. إذ يمكن للأكراد نهج سياسة التقرب من روسيا وإيران، بالموازاة مع إجراء مفاوضات سياسية مع النظام في دمشق. ويبدو أن أفضل رهان لهم يتمثل في التخلي عن أحلامهم الكبرى المتمثلة في الاستقلال، والسعي وراء شكل من أشكال الفيدرالية داخل سوريا في صيغتها اللامركزية.

نتيجة كهذه لن ترضي بالتأكيد أنقرة التي قد تحاول الدخول في حوار مع دمشق مقابل الانسحاب من الأراضي السورية. فالأتراك حالياً يحتفلون بنصر زائف وأعينهم على الانسحاب الأمريكي المبكر من سوريا. لكن التحدي الأبرز بالنسبة لأنقرة في سوريا سيظل قائماً، وهو إيجاد سبيل للسيطرة على أكراد سوريا في وقت أصبح فيه المشكل الكردي في تركيا نفسها أكثر تعقيداً بسبب استبداد النظام والقمع العسكري. وكما تعلم أنقرة جيداً، فإن “وحدات حماية الشعب” جزء لا يتجزأ من “حزب العمال الكردستاني”، الجماعة المسلحة الكردية التي تقاتل تركيا منذ سنة 1984 في سعيها لنيل الحكم الذاتي. لذلك فإن الحل الحقيقي والبعيد الأمد للقضية الكردية في سوريا يتطلب عودة أنقرة والحركة القومية الكردية في تركيا إلى مفاوضات السلام. لكن للأسف، فإن استراتيجية أردوغان القومية تسير في الاتجاه المعاكس.

AFP PHOTO/BULENT KILIC

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: