بعد عشرات السنين من الآن، ستكرِّس كتب التاريخ المعنية بتحليل المشكلات في العلاقات التركية – الأمريكية فصلًا خاصًا لسوريا. قبيل اندلاع الحرب الأهلية في تلك البلاد، كان بإمكان أنقرة وواشنطن أن تواصلا التظاهر بكونهما شريكتين استراتيجيتين، رغم المشكلات الهائلة بين الطرفين. لكن الثورة السورية لم تكتفِ بتحويل حكم الفرد الواحد إلى دولة فاشلة؛ بل جعلت القوات المسلحة التركية والأمريكية تعامل بعضها بعضًا كشبه أعداء كذلك.
جميع المشكلات التي تشهدها العلاقات التركية – الأمريكية تقريبًا في الوقت الحالي تعود جذورها إلى سوريا؛ بدءًا من الدعم العسكري الأمريكي للأكراد وحتى شراء أنقرة لأنظمة روسية للدفاع الصاروخي. ولا ريب في أن إصلاح تلك الخلافات العميقة بين الطرفين حول ما يجب أن يتم في الشمال السوري سوف يستلزم ما هو أكبر بكثير من الاتفاقية التجميلية الأخيرة بين أنقرة وواشنطن، الهادفة إلى تأسيس “مركز عمليات مشترك”.
السبب ببساطة هو أن المنطقة الآمنة التي يريد الأمريكان تأسيسها الغرض منها حماية الأكراد من تركيا، بينما المنطقة الآمنة التي تنظر أنقرة في تأسيسها هي منطقة تحميها هي ذاتها لإرهاب الأكراد. نتمنى للطرفين حظًا سعيدًا في حل هذه المشكلة من خلال مركز عمليات مشترك.
حين يوجد مثل هذه الخلافات الجوهرية حول تصور ماهية التهديد المُحتمل، فكل ما يمكن لمثل تلك الاتفاقية أن تحمل أملًا بتحقيقه هو تأجيل أمر حتمي؛ ألا وهو اجتياح عسكري تركي لتدمير شركاء الولايات المتحدة من الأكراد شرقي نهر الفرات. بالفعل حققت تركيا هذا الهدف تحديدًا في شمال غربي سوريا، بفضل غضّ روسيا الطرف عن التواجد العسكري التركي في مدينة عفرين. بالنسبة للرئيس “رجب طيب أردوغان”، كان ثمن هذا الغزو العسكري لمنطقة تقع تحت النفوذ الروسي هو شراء أنظمة الدفاع الجوي الروسية S-400. كانت للرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” اليد العليا في تلك المنطقة، وقد أدار الرجل اللعبة بمهارة؛ ليس عبر استدراج تركيا بإغرائها بالفرار من براثن واشنطن فحسب، وإنما أيضًا عبر إضعاف مجمل الهيكل العسكري لحلف شمال الأطلسي (الناتو). كل هذا التفكك في الحلف جاء على سبيل المجاملة فيما يخص المستنقع السوري.
وكي ننصف في القول، فقد وُجِدت بالفعل مشكلات بارزة في العلاقات التركية – الأمريكية قبل اندلاع الحرب السورية. في الواقع، ظهرت اختلافات كبرى بين أنقرة وواشنطن في تصور ماهية التهديد المُحتمل عقب انتهاء الحرب الباردة، وتحديدًا بعد هجمات 11 سبتمبر الإرهابية. ثبت أن الإرهاب بديل غير مناسب للتهديد السوفيتي. بدأت المشكلات حين حلّت الحركة الجهادية محل الشيوعية كتهديد وجودي في نظر الولايات المتحدة، باعتبارها القوة العظمى. كانت لتركيا أيضًا مشكلاتها الخاصة مع الإسلاميين المتطرفين؛ لكن التهديد بالنسبة لأنقرة تمثَّل في الجماعات العِرقية الكردية بدلًا من أن ينبت من جذور جهادية. وحيث تحوَّل الشرق الأوسط إلى مركز الجاذبية الجديد للأجندات الثنائية، فقد صارت الأمور من سيء إلى أسوأ، ليس فيما يتعلق بالمسألة الكردية وحدها، بل أيضًا فيما يخص الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني ودور جماعة الإخوان المسلمين في مصر؛ واجتمعت تلك الأمور معًا فأفسدت العلاقة بين الحليفتين الزميلتين في “الناتو”، أي تركيا والولايات المتحدة.
وجد الطرفان أنهما يتخذان مواقف متضادة عند مناقشة كيفية التعامل مع حركة حماس أو الانقلاب العسكري في مصر؛ حيث اعتقدت أنقرة بأن واشنطن متواطئة في الانقلاب الدموي الذي استأصل حركة إسلامية صعدت إلى الحكم بانتخابات ديمقراطية. الحلم الأكبر للرئيس “أردوغان” هو شرق أوسط تحكمه جماعة الإخوان المسلمين، حيث يتخيل نفسه المهندس العثماني الجديد الذي يرسم عهدًا جديدًا من الحكم في العالم العربي. مع الإطاحة بمحمد مرسي استحال الحلم التركي كابوسًا، بعدما بدا أنه على مشارف التحقق عقب الانتصارات الانتخابية التي حققها الإسلاميون في تونس ومصر. وألقى رجل تركيا القوي اللوم على واشنطن فيما يخص هذه الحالة الراهنة أكثر مما ألقى حتى على الأطراف الإقليمية الفاعلة، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
رغم ذلك، لم يمثل أيٌ من تلك التحديات تهديدًا حيويًا للأمن القومي بالنسبة لتركيا أو للولايات المتحدة، وبدا أن الشراكة الاستراتيجية بين البلدين ستنجو من هذا الفخ؛ نظريًا على الأقل. والواقع أن الانقسام الذي شاب العلاقات التركية – الأمريكية وصل إلى أعلى حدٍ له في ظل الحرب الأهلية السورية.
لقد غيَّرت الانتفاضة السورية كل شيء. في النهاية، يُعتبر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بنسبة كبيرة نتاجًا لانهيار الدولة في سوريا. القرار الأمريكي بتسليح الأكراد السوريين المرتبطين بحزب العمال الكردستاني (بي كيه كيه)، الهادف إلى مواجهة هذا التهديد الجهادي، نزل كالصاعقة على مؤسسات الأمن القومي التركي. في نظر أنقرة، فإن واشنطن تسلِّح منظمة إرهابية – هي المسمار الكردي في نعش تركيا – تحت مسمى محاربة كيان إرهابي آخر. على الجانب الآخر، كان لواشنطن منطلق خاص بها في النظر إلى تلك المسألة. بالنسبة للجيش الأمريكي، بدا أن تركيا على علاقة حميمة بالجماعات الإسلامية المتطرفة المرتبطة بتنظيم القاعدة، وأنها كانت تغض الطرف عن المؤيدين لتنظيم الدولة بينما يدخلون الأراضي السورية عبر الحدود التركية بعد تيسير اختراقها لهم.
كل تلك الأحداث لم تبشر بخير فيما يخص الحفاظ على شراكة استراتيجية بين الحليفتين عضوتيْ “الناتو”. كان الاختلاف في تصور ماهية التهديد مقبولًا حتى درجة معينة؛ لكن الآن صارت كلٌ من أنقرة وواشنطن تزوِّد الكيان المهدِّد لوجود الأخرى بالدعم العسكري. وقد ثبت أنه من المبالغة التعويل على ما تبقى من تلك الشراكة، التي قامت دومًا على وجود تهديد مشترك وليس على القيم الديمقراطية المشتركة.
إلى أين تسير بنا الأحداث من الآن فصاعدًا؟ بعدما تضاءل الأمل في استعادة شراكة كانت استراتيجية يومًا، فإن أفضل ما يمكن للبلدين السعي إليه هو السيطرة على الأضرار وإدارة الأزمة. الاتفاقية الجديدة بين الطرفين حول الشمال السوري، والتي تم الإعلان عنها هذا الشهر، هي بالأساس تحقق ذلك الهدف بامتياز. اللغة الغامضة التي يحملها هذا الاتفاق لا تُفضي سوى إلى تأجيل المواجهة من خلال تأسيس مركز عمليات مشترك، في وقت لا يوجد فيه ما هو مشترك ولا يوجد سوى القليل من العمليات. هذه الاتفاقية لا تقدم رؤية استراتيجية مشتركة، أو حتى التزامًا أمريكيًا أساسيًا بالتعاون مع أنقرة. لكنها، بالتأكيد، أفضل من السيناريو الكابوسي لاشتباك دامٍ بين الجيشين في الشمال السوري.
“عمر تشبينار” أحد كبار الزملاء بمعهد “بروكينغز” الأمريكي، وأستاذ في استراتيجية الأمن القومي بجامعة الدفاع الوطني في العاصمة واشنطن.