تعُد الذكرى الثلاثين لمذبحة ساحة تيانانمن، والتي تحل هذا الشهر، بمثابة فرصة للتأمُل فيما يقدمه “النموذج الصيني” لمعجبيه في تركيا وفي الشرق الأوسط بشكل عام، والأخطار الناجمة عن ذلك، وعلى الرغم من تراجُع الليبرالية الديمقراطية على مستوى العالم، بما فيها وبشكل كبير أجزاء من الغرب – فإنه حتى أكثر الأنظمة القمعية اليوم لن تقوم بقمع المعارضة، ورغم كل شئ فإن المستبدين يحتاجون إلى الشرعية. كما أن القومية الشعبوية كما يظهر من تعريفها تعتمد على الشعبية بين الناس (وهو ما يفضله ميكافيلي بخصوص تغليب الخوف على الحب)، وبالنسبة المستبدين اليوم؛ فإن مسألة “اتفاق بيكين ” والتي تشكلت بعد أحداث ساحة تيانانمن، نتج عنها نوع من الكفاءة السياسية لتفادي الأخطار الناجمة عن الديمقراطية الحقيقية (مثل خسارة الحكم جرّاء انتخابات نزيهة).

والواقع أن رجل تركيا القوي، رجب طيب أردوغان، يعُد مثالًا بارزًا للقادة المستبدين اليوم، الذين يحاولون الظهور بمظهر المهتمين بالانتخابات بينما يرفضون الليبرالية، والواقع أن الأسلوب الذي أعلن به أردوغان رفض هزيمة حزبه في انتخابات اسطنبول المحلية، يثبت لنا بوضوح عدم إمكانية الجمع بين مصطلحي “تركيا” و”الانتخابات النزيهة” في آن واحد.

وليس من الغريب حين يعلن قادة مثل أردوغان إعجابهم ب”النموذج الصيني” ألا يأتون على ذِكر أحداث ساحة تيانانمن المثيرة للإزعاج، وعلى سبيل المثال حين تحدّث أردوغان عن مشاركة تركيا في منظمة شنغهاي للتعاون، فقد وصفها على أنها كتلة تتمتع بالمزيد من القوة اقتصاديًا وسياسيًا، وقال الرئيس أردوغان في العام 2013 بخصوص تلك المسألة :”إن مجموعة شنغهاي الخماسية(منظمة شنغهاي للتعاون سابقًا) هي أفضل وأقوى من الاتحاد الأوربي، ونحن نتوافق معهم حيال الكثير مما يخُص القيم المشتركة“.

وقد انجذبت تركيا للصين؛ أقوى أعضاء منظمة شنغهاي للتعاون، بعد أحداث ساحة تيانانمن التي جرت في العام 1989، ومن حينها اتجهت تركيا إلى نموذج “الرأسمالية التي تقودها الدولة”، أو الرأسمالية “على الطريقة الصينية”، وعبر هذا النموذج نجحت الصين في احتلال مركز متميز بين دول العالم، وذلك عبر التنمية المستمرة بمعدل غير مسبوق، وبينما يتم التعبير عن الإعجاب بهذا النموذج دون الإشارة إلى المذبحة التي تمت؛ فقد بات واضحًا أن العقد الاجتماعي الذي يعزز من الإجماع على بيكين، قد ظهر كنتيجة لهذا القمع الوحشي.

والمتشددين داخل الحزب الشيوعي يدركون التحدّي الوجودي للنظام، ذلك التحدي الذي فرضته الحركة الطلابية في الصين، وقد كان على هؤلاء المتشددين التحرك بشكل سريع، وبمجرد سحق حركة المعارضة فقد تم القضاء بالقوة على الأفكار الغربية الخطرة، التي تشجع على الحرية السياسية وحقوق الإنسان والتي تسللت إلى الصين خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي، وقد ظهر من حينها عقدًا أقل بساطة بين الحزب الشيوعي والشعب الصيني: الدولة ستوفر الوظائف وتعمل على تحسين مستوى الحياة، وفي المقابل سيقوم الشعب بدعم نظام الحكم.

وهناك مظهرًا هامًا من مظاهر الإجماع على بيكين، يجذب المستبدين اليوم، ألا وهو أن ذلك الواقع قد أدّى إلى انقلاب الأمور رأسًا على عقب بالنسبة للغرب المعاصر، وهو أن التطور الاقتصادي سيؤدي حتمًا إلى الحرية السياسية، كما يؤدي إلى التأكيد على القول المأثور لصحيفة وول ستريت جورنال؛ إن الأسواق الحرة تتساوى مع المواطنين الأحرار، وهذا ما يفسر كيفية تحول الغرب إلى الديمقراطية والحرية. وفي أوربا والولايات المتحدة فإن الثورة الصناعية والتنمية الاقتصادية وظهور طبقة متوسطة قوية، سبقت جميعها الديمقراطية الليبرالية المبنية على الانتخابات الحرة وحقوق الملكية وحق الاقتراع العام.

والنموذج الصيني يقدم شيئًا مختلفًا للغاية: حيث تُستخدم التنمية الاقتصادية كأداة من أجل الاستقرار المبني على الاستبداد، وبمعنى آخر؛ فإن القبضة القمعية التي يستخدمها الحزب الشيوعي الصيني تعتمد على الأداء الاقتصادي عالي المستوى، وفي ذات الوقت فإن توفير الوظائف والرخاء لن يقودا إلى الديمقراطية بصورة آلية، والواقع أنه حينما يشعر الناس بالرضا عن الاقتصاد؛ فإن تلك النظرية تتلاشى، لأن هؤلاء سيفضلون بقاء الوضع الراهن المستقر على الدخول في مغامرة خطرة عبر التغيير السياسي، وعلى الجانب الآخر؛ لو أن الدولة فشلت في توفير الرخاء الاقتصادي؛ فإن هذا التغيير السياسي سيصاحبه أعمال العنف، وثورات الربيع العربي تضم الكثير من الأمثلة على ما نقول.

وذلك بصورة أساسية، هو الدرس الذي يقدمه النموذج الصيني، الذي يعُد بدوره محط إعجاب الدول الغير ليبرالية، ومن الشرق الأوسط إلى أمريكا اللاتينية، قام المستبدين بشرعنة واقع مؤداه أن الطريقة الآمنة للاستمرار في الحكم تتمثل في توفير الوظائف بشكل مستمر، مع الاحتفاظ بالطبقة المتوسطة.

وفي تركيا؛ يدرك أردوغان أنه يحتاج إلى اقتصاد قوي من أجل الإبقاء على الاستقرار القائم على الاستبداد، أما في مصر؛ فإن الرجل القوي الجديد الذي يحكم البلاد يدرك ما يجب تقديمه للمواطنين كي يتفادى مصير الرجل القوي الذي حكم البلاد وذهب في ثورة يناير، واليوم فإن معظم الأنظمة العربية تتبع النموذج الصيني الذي يتسم بالاختلاف، وبدءًا من الدول الغنية بالنفط إلى تلك الدول التي يسيطر فيها القطاع العام على سوق الوظائف، فإن الكثير من الدول العربية لا زالت تفتقد منظومة الحكم التي تربط بين التنافسية الاقتصادية وكل من المحاسبة الديمقراطية والمؤسسات التي تتمتع بالشفافية ومزايا الليبرالية.

وفي الشرق الأوسط؛ تعُد تركيا المثال الأبرز للنموذج الصيني، كما تعُد مثالًا على الخطأ التي تم ارتكابه في هذا الإطار، وهو الخطأ الذي وقع فيه أردوغان على الرغم من أن الصينيين نجحوا في تلافيه (على الأقل حتى الآن)، والآن فإن الاقتصاد التركي يشهد تراجُعًا حادًا، لذا فإن فرص أردوغان من أجل ضمان الاستقرار المبني على الاستبداد باتت في تناقُص، كما أن الإجماع على نموذج بيكين لن يقدم حلًا ناجحًا لتلك المعضلة، ودون الوصول إلى انتخابات نزيهة تكون بمثابة صمام أمان للمواطنين التعساء؛ فإن أردوغان سوف يقود تركيا إلى كارثة، لذا فإن اتباع النموذج الصيني يجب أن يتم بعناية فائقة.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: