فاجأت الولايات المتحدة اليونان وشريكيها الأساسيين في منتدى غاز شرق المتوسط​، إسرائيل وقبرص، في وقت سابق من هذا الشهر بسحب دعمها لخط أنابيب الغاز الطبيعي، والذي كان من شأنه ربطهم بالقارة الأوروبية، وكان التغيير الذي طرأ على الموقف الأمريكي مبررًا ظاهريًا بالحاجة إلى التركيز على مصادر الطاقة النظيفة وأن ذلك المشروع لا يتماشى مع خطة الطاقة الخضراء في أوروبا.

وبدلاً من العمل على ذلك المشروع، حثت واشنطن الدول على التفكير في مشروعين بديلين لنقل الكهرباء، حيث يهدف مشروع الربط الكهربائي “يوروأفريقا” إلى توصيل الكهرباء من مصر عبر قبرص ثم إلى اليونان وأوروبا عبر جزيرة كريت، والمشروع التابع “يوروأسيا” والذي يبدأ في إسرائيل ويتصل بأوروبا عبر قبرص، ويدمج كلا المشروعين شبكات الكهرباء في تلك الدول مع شبكات الكهرباء في أوروبا.

وظهرت فكرة خط أنابيب شرق البحر المتوسط بعد اكتشافات ضخمة لمخزون الغاز في المياه الإقليمية لقبرص ومصر وإسرائيل، واعتبر الكثيرون أن خط الأنابيب، الذي كان سيكلف ما يقدر بنحو 6-7 مليار دولار، مشروعًا غير واقعي نظرًا للتغيرات المحتملة في أنماط استهلاك الطاقة الأوروبية، وتعقيداته وتكلفته الهائلة، فضلاً عن الحاجة إلى التمويل، وكانت هناك احتمالات بأن ذلك المشروع لن يكتب له النجاح أو الانطلاقة، ناهيك عن الاكتمال بحلول عام 2025 كما هو متوقع.

وسحبت وزارة الخارجية الأمريكية دعمها للمشروع من خلال تسليم ورقة غير رسمية، وبطريقة غير رسمية للتعبير عن تفضيلاتها أو مطلبها من دون إقرار مباشر، وكان يمكن توصيل المغزى شفهيًا، لكن واشنطن ربما حاولت تجنب إساءة فهم فحوى الرسالة.

وحتى لو اعتقدت الولايات المتحدة أن لديها مسؤولية كجزء من آلية 3 + 1 للاجتماعات مع قبرص واليونان وإسرائيل والمعد لتشجيع التعاون الإقليمي، إلا أن الحقيقة هي أن قرار بناء خط أنابيب هو مسؤولية تلك البلدان الثلاثة والأوروبيون وليس من مسؤولية واشنطن.

وبالمثل، إذا كان المشروع لا يتناسب مع خطط الطاقة الخضراء الأوروبية المستقبلية، فمن المفترض أن يكون هذا أيضًا قرارًا أوروبيًا.  وكل من اليونان وقبرص أعضاء في الاتحاد الأوروبي، ولكن هذا الإعلان سوف يُنظر إليه على أنه محاولة من قبل واشنطن لفرض إرادتها بالقوة على الأطراف.

ولم يكن توقيت أرسال تلك الرسالة غير الرسمية مناسباً، فأوروبا والولايات المتحدة في خضم واحدة من أخطر المواجهات مع روسيا بشأن أوكرانيا، وخطوط أنابيب الغاز الطبيعي الروسية هي مصدر الدفء للمنازل الأوروبية، كما أنها تغذي القطاع الصناعي في أوروبا. وإذا قام الرئيس فلاديمير بوتين بمهاجمة أوكرانيا، فسيكون خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2 ” هو الهدف الأول له، وهو الخط الذي تم الانتهاء منه مؤخرًا، والذي يصل إلى ألمانيا، وحتى لو كان خط أنابيب شرق البحر المتوسط خيارًا غير واقعي، فألم يكن من الحكمة ترك بوتين يعتقد أن أوروبا لديها خيارات أخرى؟

وتنبع معارضة إدارة بايدن لخط أنابيب شرق البحر المتوسط من التزامها العلني والأيديولوجي تقريبًا، بتسريع الانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة.

ومع ذلك، يتمتع الرابط الأفريقي الأوروبي والرابط الأسيوي الأوربي بميزة المرونة في التأمين، أي أنه يمكن توليد الكهرباء من مجموعة متنوعة من المصادر التي تتراوح من الطاقة الشمسية إلى الغاز الطبيعي، ومن المقرر أن تبدأ المرحلة الأولى من المشروع الأفريقي الأوربي، بين مصر وقبرص، بحلول شهر ديسمبر 2023 والمرحلة الثانية من قبرص إلى اليونان، في نهاية عام 2024.

ومع ذلك، سيجد الغاز في المنطقة من يهتم بشرائه من أبناء المنطقة، والمثير للدهشة أن إسرائيل وافقت مؤخرًا على نقل بعض غازها إلى لبنان عبر طريق ملتوي، لكن الأهم من ذلك أن مصر عززت قدراتها في مجال الغاز الطبيعي المسال، حيث سيسمح ذلك للقاهرة بتصدير غازها وكذلك غاز جيرانها إلى سوق تتمتع بالكثير من التنوع والمرونة.

وتمثل اتفاقية خط أنابيب شرق البحر المتوسط الأصلية في يناير 2020 بين قبرص واليونان وإسرائيل والتي دمجت دول أخرى بما في ذلك مصر وفلسطين وفرنسا، تحولًا جيوسياسيًا أساسيًا في المنطقة، وسيستمر ذلك التحول بغض النظر عن مصير خط الأنابيب، وقد ساعد ذلك التحول في إنشاء شراكة مناهضة لتركيا ومصممة لاحتواء سياسات أنقرة التي تفرض نفسها بالقوة في المنطقة بالإضافة إلى فتح فرص تعاون جديدة.

وفي فهم خاطئ لقرار واشنطن، أشادت الحكومة التركية وصحافتها بالخطوة على أنها انتصار كبير لتركيا، ولطالما أعربت أنقرة عن اعتراضها على مشروع خط أنابيب الغاز، قائلة إن الطريقة الوحيدة لتصدير الغاز إلى أوروبا هي عبر أراضيها، وكانت المشكلة أن حكومة أردوغان أقصت إسرائيل، كما أن تركيا لا تعترف بقبرص، مما أعاق عقد أي أتفاق، كما إن انضمام إسرائيل إلى قبرص جعل التعاون المستقبلي مع تركيا بشأن الغاز أمرًا مستبعدًا كلياً.

وشهدت العلاقات التركية الأمريكية بعض الاضطرابات في الآونة الأخيرة، حيث واجهت أنقرة موجة من الغضب الأمريكي بفضل الخلافات حول شراء تركيا لصواريخ روسية مضادة للطائرات من طراز “إٍس 400″ والتي تعرض طائرات الخطوط الأمامية الأمريكية من طراز F-35 للخطر، فضلا عن خلافات بشأن شمال سوريا، كما أدت سلسلة من الخلافات الأخرى إلى خلق فجوة بين الحليفين.

وفي الوقت الذي تكافح فيه حكومة أردوغان لاحتواء الأزمة اقتصادية التي تعصف بها، بالإضافة إلى زيادة الإحساس بخيبة الأمل في الداخل والشعور بالحصار، لم يكن من المستغرب أن تقوم أنقرة بقراءة قرار الولايات المتحدة بشأن خط الأنابيب باعتباره أخبارًا جيدة.

وهنا تكمن مشكلة أخرى، فنظرًا لميل القيادة التركية إلى تصديق تفسيرها الخاص للأحداث، فهل سيؤدي ذلك إلى فهم تلك الخطوة فهم خاطئ وبالتالي الإقدام على التصعيد في شرق البحر المتوسط؟ هذا ما تخفيه لنا الأيام القادمة.

 

هنري جي باركي، هو أستاذ العلاقات الدولية في جامعة ليهاي في بيت لحم، بنسلفانيا، وزميل أول مساعد لدراسات الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: