أثارت الحرب التي أشعلها فلاديمير بوتين في أوكرانيا قلق فنلندا والسويد بما فيه الكفاية لإعادة النظر في السياسات المستمرة منذ عقود والتقدم بطلب الحصول على عضوية فورية في الناتو، وسرعان ما استطمت تلك الفكرة البديهية للانضمام للتحالف بعقبة خلقها الرئيس التركي الزئبقي “رجب طيب أردوغان”، حيث أعلن أن هلسنكي وستوكهولم لا ينبغي لهم حتى التفكير في إرسال ممثلين إلى أنقرة لمناقشة طلب الانضمام، لأنه لن يوافق على عضويتهم، مشيراً إلى الخلافات السياسية مع البلدين، حيث يجهدهم متسامحين بشكل مفرط مع الجماعات والشخصيات المعارضة الكردية التركية.
ويتطلب الناتو الموافقة بالإجماع عندما يتعلق الأمر بقبول دولة جديدة إلى الحلف، وتركيا ليست عضوا عاديا في الناتو، فقد ساهم موقعها في تعزيز أهميتها للتحالف، حيث تقع في جنوب روسيا، وتسيطر على بوابة البحر الأسود، ولها حدود مع سوريا والعراق وإيران، فضلاً عن ساحل طويل مطل على البحر الأبيض المتوسط ، لقد نجحت تركيا في استغلال موقعها الاستراتيجي للمساومة مع حلفاءها، حيث إنه في كثير من الأحيان يغض الحلفاء الطرف عن تجاوزاتها في الداخل والخارج، وأبرز هؤلاء الحلفاء هم واشنطن.
وقد وجد أردوغان نفسه مؤخرًا على خلاف متزايد مع حلفائه التقليديين الذين يناهضون سياساته ومطالبه، فقد تعرضت تركيا المتجه نحو الاستبدادية في ظل حكمه الفردي لانتقادات، حيث يتم الزج بخصومه في السجون بصورة عشوائية لقضاء فترات طويلة بعد محاكمات صورية. وعلاوة على ذلك، ألقى أعضاء في الحكومة التركية باستمرار باللوم على واشنطن في محاولة الانقلاب الفاشلة في شهر يوليو من عام 2016، وهو اتهام مدهش، ويلقي ذلك الاتهام بظلاله على طبيعة العلاقات التركية الأمريكية.
ولكن الحدث الذي أثار دهشة واشنطن كان قرار تركيا شراء نظام الصواريخ الروسية S-400 المضاد للطائرات، حيث أصر أردوغان على المضي قدماً في تلك الصفقة على الرغم من العديد من التحذيرات بأنه كان يخاطر بتأمين تركيا بطائرات مقاتلة من الجيل الخامس للتحالف وهي F-35. وقد تجاهل أردوغان التوسلات الأمريكية من قادة كبار معتقدًا أنه في النهاية ستتنازل واشنطن كالمعتاد، ولكنه تلقى صدمة كبيرة، فلم يتم إلغاء صفقة بيع F-35 بتكلفة باهظة فحسب، بل تم تفكيك مراكز تصنيع الطائرة في تركيا وفرض الكونجرس الأمريكي عقوبات على أنقرة.
وليست تلك هي القضايا الوحيدة التي تقض مضج العلاقات الثنائية، فهناك قضية في المحاكم الأمريكية ضد بنك هالك التركي، والمملوك للدولة بتهمة التهرب من العقوبات المفروضة على إيران، وقد طلب أردوغان مرارًا وتكرارًا من البيت الأبيض رفض القضية، لكن لا يبدو أنه يفهم أنه في الولايات المتحدة، لا يمكن للسلطة التنفيذية التدخل في شؤون السلطة القضائية على عكس ما يجري في تركيا حيث غالبًا ما يدير أردوغان القضايا القانونية ويوجه المدعين والقضاة.
ولا بد أن أردوغان شعر بالمرارة الشديدة بسبب حفل الاستقبال الذي أقيم على شرف رئيس الوزراء اليوناني، “كيرياكوس ميتسوتاكيس” في واشنطن، في نفس الوقت الذي أصبح فيه طلب السويد وفنلند للانضمام إلى الناتو حديث الشارع. ولم يستقبل الرئيس جو بايدن “ميتسوتاكيس” في البيت الأبيض فحسب، بل ألقى رئيس الوزراء اليوناني كلمة أمام جلسة مشتركة للكونغرس الأمريكي وتلقى بعد كلمته الكثير من التصفيق الحار، ولم تتم دعوة أردوغان بعد إلى واشنطن من قبل إدارة بايدن، وحتى لو تمت دعوته، فلن يُطلب منه أبدًا مخاطبة الكونجرس بسبب حجم الغضب من أنقرة، ليس فقط بسبب القضايا المذكورة أعلاه ولكن أيضًا بفضل سلوكها العدواني في شرق البحر المتوسط ، والتنمر على اليونان وقبرص، والتدخلات ضد أكراد سوريا الذين تحالفوا مع الولايات المتحدة في الحملة ضد داعش والعديد من النقاط الخلافية الأخرى، ويعتقد الكثير في الكونغرس والإدارة الأمريكية أن الأكراد السوريين هم الذين ساعدوا أخيرًا في دحر داعش.
وربما تكون اعتراضات أردوغان قد ساعدت الزعيم الروسي فلاديمير بوتين، الذي حملت تصريحاته الأولية المعارضة لتوسع الناتو نبرة شديدة للغاية، ولكنه خفف من حدة تلك النبرة عندما ظهر أردوغان كمعارض أساسي، وذلك الموقف أيضا سيلحق الضرر بمكانة أنقرة في واشنطن، وقد قدم بايدن دعمه الكامل لفنلندا والسويد في طلبهما للانضمام إلى الناتو يوم الخميس الماضي.
ومن المفارقات، أن إدارة بايدن كانت حريصة كل الحرص على الموافقة على بيع طائرات F-16 الجديدة إلى تركيا، على الرغم من معارضة الكونجرس، ولكن مع إلغاء برنامج F-35، ستحتاج تركيا بشدة إلى ترقية أسطولها الحالي من الطائرات المقاتلة، ومن المحتمل أن يؤدي رفض أردوغان الغاضب للسويد وفنلندا إلى تقويض احتمال موافقة الكونجرس على تلك الصفقة.
ويميل أردوغان إلى الهجوم أولاً ثم طرح السؤال لاحقا، وبعد سنوات من الإدانة الشديدة للعديد من دول الشرق الأوسط، بدءًا من الإمارات إلى مصر وإسرائيل، بدأ أردوغان مؤخرًا في استجداء المصالحة معهم، وبذلك، اعترف بشكل غير مباشر بأن الخطب اللاذعة التي وجهها ضدهم لم تحقق الكثير، بل أنه وجد نفسيه في النهاية في عزلة.
ومن الواضح والجلي أنه يرتكب نفس الخطأ مرة أخرى في قضية توسيع الناتو، فبدلاً من تقديم اعتراضاته ومطالبه بهدوء من خلف الأبواب المغلقة، فقد اختار الحديث إلى الجمهور، ومن خلال القيام بذلك، يضعف نفوذه بينما يضر في نفس الوقت بصورة أنقرة في وقت تحتاج فيه تركيا إلى الاستثمار الأجنبي والسائحين والكثير من النيات الحسنة الأخرى.
ستصبح السويد وفنلندا في النهاية عضوين في الناتو، والسؤال الوحيد المتبقي الذي يتعين تحديده هو متى سيتم ذلك، وستجد تركيا أن مطالبها لن يتم تلبيتها، ولن تتم إعادة أي “إرهابي” قسرا وهم (لاجئين سياسيين أكراد أتراك) ولن تنتهي المساعدة المالية السويدية للأكراد السوريين، خاصة وأن الولايات المتحدة تقوم بتقديم نفس المساعدات وأكثر، وسيجد أردوغان مرة أخرى أن نفوذه قد تضاءل بشكل كبير والفضل يعود في المقام الأول إلى سلوكياته.
هنري جيه باركي هو أستاذ كوهين للعلاقات الدولية في جامعة ليهاي في بيت لحم، بنسلفانيا، وزميل أول مساعد لدراسات الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية.