لن تفاجئ الجولة الأخيرة من القتال بين أرمينيا وأذربيجان معظم الناس، فقد اشتبكت الدولتان في جولات مختلفة من الصراع لمدة ثلاثة عقود، بدءًا من تبادل إطلاق النار الخفيف إلى الحرب واسعة النطاق التي اجتاحت منطقة ناغورنو كاراباخ المتنازع عليها في عام 2020.

ولكن الجولة الأخيرة تمثل تصعيدًا كبيرًا، يمكن أن تؤدي إذا سمح للحرب بالاستمرار، إلى كارثة إنسانية وحتى حرب إقليمية.

شنت القوات الأذربيجانية بعد منتصف ليل الثلاثاء 13 سبتمبر بقليل هجومًا واسع النطاق على المواقع الأرمنية على مدى ما يقرب من 200 كيلومتر من حدودها المشتركة، وشمل الهجوم طائرات بدون طيار ومدفعية وعربات مصفحة، ووصلت الضربات الأذربيجانية إلى أهداف تصل إلى 40 كيلومترًا داخل الأراضي الأرمينية، وأمطرت قذائف المدفعية البلدات والقرى الأرمينية، بما في ذلك منتجع جيرموك، ودمرت منازل المدنيين والمجمعات السكنية، وتوقف القتال بسبب وقف إطلاق النار الهش في مساء الأربعاء، وكانت الحصيلة هي مقتل أكثر من 200 جندي (135 من أرمينيا، و 71 من أذربيجان)  ونزوح 7500 مدني أرمني، وتقدمت القوات الأذربيجانية أكثر من سبعة كيلومترات داخل أرمينيا.

ولم يكن هناك شك فيمن بدأ القتال، حيث ادعت أذربيجان في البداية أنها كانت ترد على “الاستفزازات” الأرمنية، وهو نفس الادعاء الذي قالته حليفتها تركيا، لكنها تخلت إلى حد كبير عن تلك الحجة في الأيام التالية لصالح حجج أخرى، وقد شوهد نفس النمط مرارًا وتكرارًا في العامين الماضيين، بما في ذلك خلال حرب عام 2020 حيث تم وصف هجوم مُعد لفترة طويلة في البداية بأنه “هجوم مضاد”، وأيضا هجوم أذربيجان الشهر الماضي على المواقع الأرمينية في ممر لاتشين الذي يربط كاراباخ مع أرمينيا المناسبة.

ولم تتضح أهداف الهجوم على الفور، لكنها تتماشى مع السياسة الأذربيجانية منذ نهاية حرب عام 2020، ويعتقد الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف أن أرمينيا ارتكبت خطأً فادحًا عندما فشلت في إجبار بلاده على توقيع معاهدة كاملة تؤكد المكاسب التي نالتها أرمينيا من انتصارها في حرب كاراباخ الأولى، التي انتهت في عام 1994. والرئيس علييف مصمم على عدم تكرار خطأ عدوه، ويسعى إلى إجبار رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان على التفاوض للتوقيع على وثيقة من شأنها التخلي عن ما تبقى من جمهورية ناغورنو كاراباخ لأذربيجان، وبالمثل يريد علييف من أرمينيا أن تمنح قواته سيطرة حصرية على ممر سيادي يربط بين البر الرئيسي لأذربيجان و ناختشيفان – حيث يدعي الرئيس الأذربيجاني أنه ملك لدولته نتيجة لتفسير خاطئ للبند الأخير من اتفاق وقف إطلاق النار لعام 2020.

ولعل الأهم من ذلك كله، أن الهجمات حدثت لمجرد أنها قابله للحدوث، فمع تعثر روسيا في أوكرانيا وعدم وجود قوى أخرى في وضع يسمح لها بالتدخل، انتهز علييف الفرصة لإذلال أعدائه الأرمن وإظهار التفوق الأذربيجاني المتواصل في ساحة المعركة.

ومن اللافت للنظر الغياب الروسي عن المشهد، حيث تعتبر روسيا حليفًا رئيسيًا لأرمينيا، وحيث كان لموسكو ذات يوم نفوذ كافٍ على أذربيجان لوقف عدوانها، مما أدى إلى إنهاء “حرب شهر أبريل من عام 2016 في غضون أربعة أيام فقط، ولكن  تبدو روسيا الآن عاجزة أمام أذربيجان. ووقع الهجوم الحالي بعد أيام فقط من هزيمة قوات موسكو من قبل القوات الأوكرانية في منطقة خاركيف، مما عزز من فكرة ضعف الجيش الروسي، وفي تلك الأثناء، تم توضيح ضعف منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO) التي تقودها روسيا، وهي كتلة دفاعية تضم أرمينيا وأربع دول أخرى من الاتحاد السوفيتي السابق، بعد أن فشلت في احترام احتجاج أرمينيا بشرط الدفاع المشترك الذي يتضمنه ذلك الميثاق، ومع عزلة روسيا سياسياً واقتصادياً أكثر من أي وقت مضى، قرر فلاديمير بوتين أنه لا يمكن ربح أي شيء من خلال الوقوف في وجه أذربيجان أو تركيا، وهما دولتان هو في أمس الحاجة لربط علاقة ودية معهما.

وماذا عن رد فعل القوى العالمية الأخرى، حيث لم يقدم الاتحاد الأوروبي سوى القليل بخلاف الدعوات الناعمة لـ “ضبط النفس من كلا الجانبين”، ويشير العديد من الأرمن إلى الزيارة التي قامت بها رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لاين” في شهر يوليو إلى عاصمة أذربيجان باكو، حيث كانت تقف مبتهجة أمام الكاميرات جنبًا إلى جنب مع الرئيس علييف للتوقيع على صفقة غاز، مما زاد من جرأة الأعمال الأذربيجانية. وفي ظل بحث الاتحاد الأوروبي عن شركاء في الطاقة البديلة بعد انفصاله عن روسيا فقد صارت القارة العجوز مترددة وغير راغبة في معاقبة باكو جراء عدوانها المتطاول.

وصرحت إيران، وهي الدولة الرئيسية الأخرى في المنطقة، مرارًا وتكرارًا أنها تعتبر أي تغيير في حدود المنطقة “غير مقبول”، لا سيما أي شيء من شأنه أن يتسبب في فقدانها لممر العبور عبر أرمينيا إلى البحر الأسود (عبر جورجيا) ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت طهران مستعدة لفعل أي شيء ملموس قد يؤثر على حسابات باكو.

ولم يبقى من القوى العالمية سوى الولايات المتحدة، بصفتها الممثل الآخر الوحيد القادر على التأثير على الرئيس علييف، وكان رد فعل واشنطن قويًا بشكل مدهش، حيث غير مسؤولو وزارة الخارجية نبرتهم عن الدعوات المعتادة لضبط النفس من كلا الجانبين إلى القاء اللوم بصورة واضحة على باكو، وزارت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي أرمينيا في نهاية الأسبوع حيث أدانت “الهجمات غير القانونية والقاتلة” من جانب أذربيجان،  وسيتطلب الأمر أكثر من مجرد كلمات لإخافة علييف، لكن قد تكون هناك إجراءات ملموسة وشيكة، وعلى أية حال فقد كان الضغط الأمريكي هو الذي أقنع باكو بوقف هجومها ليلة الأربعاء.

لكن الحقيقة هي أنه من الراجح شن المزيد من الهجمات، حيث أمضت أذربيجان، التي لم تؤكد أبدًا وقف إطلاق النار، الأيام القليلة التالية في نشر أخبار عن الجماعات الأرمينية “التخريبية” المزعومة التي تم اكتشافها وتدميرها، بما في ذلك في جيب ناختشيفان، حيث حذرت أرمينيا من هجوم جديد، وبدأ المسؤولون الأذربيجانيون الدعوة علانية إلى “منطقة عازلة” على الأراضي الأرمنية، والتي ستكون كبيرة بما يكفي لتوطين النازحين بسبب القتال، لقد أوضحت زيارة بيلوسي أن الولايات المتحدة تراقب المنطقة عن كثب وستستخدم الأدوات التي تحت تصرفها لثني أذربيجان عن الهجوم مرة أخرى، يجب على المرء أن يأمل أن تلك الأدوات كافية.

 

نيل هاور محلل أمني مقيم في يريفان – أرمينيا، ويركز عمله على السياسة والأقليات والعنف في القوقاز، مع قضايا أخرى.

تويتر:NeilPHauer

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: