تسير العلاقات التركية الإسرائيلية من سيء إلى أسوأ، والأمل مفقود في تحسن الأمور في نهاية المطاف. ومن يعتقد أنه من الواجب بمكان أن يتعاون الأتراك والإسرائيليون معًا استنادً إلى مصالحهما الاقتصادية والاستراتيجية المشتركة والمتمثلة في التعاون الوثيق في مجالي التجارة والطاقة والاستقرار في سوريا واحتواء إيران – ينظر إلى الأمور بنظرة ضيقة وبسيطة، معتقدًا بأن الدولتين ستكونان في أفضل حال إذا ما خرج أردوغان ونتنياهو من المشهد، غير أن التطورات الأخيرة أثبتت أن اعتقادهم كان خطأ. إن حمام الدم في غزة، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والحرب غير المعلنة بين في سوريا بين إسرائيل وإيران، والتعاون الاقتصادي والسياسي بين تركيا وإيران (رغم العقوبات الاقتصادية الأمريكية الماضية والحاضرة والمستقبلية)، جميعها تمثل تطورات هامة وتتجاوز المشكلة بين نتنياهو وأردوغان. إن المشاكل في العلاقات الثنائية بين البلدين أصبحت مشاكل هيكلية ومستعصية. وفي ظل تلك الظروف أصبح الخيار الأفضل لتركيا وإسرائيل هو فصل المشكلات عن بعضها والمشاركة في السيطرة على الأضرار من خلال حماية العلاقات التجارية التي ظلت مستمرة رغم كافة الخلافات.
إن أكثر الدلالات وضوحًا على تجاوز المشكلات التركية الإسرائيلية تلك العلاقات السيئة بين نتنياهو وأردوغان هي الديناميات الإقليمية المتفاقمة، لاسيما في الأراضي الفلسطينية وسوريا حيث تصعيد المواجهة العسكرية بين إسرائيل وإيران يأخذ المنطقة بسرعة شديدة نحو الهاوية. ولما كان الأمر شديد الوضوح، نجد أن التصعيد في غزة مع قوات الدفاع الإسرائيلية التي تقتل العشرات من الفلسطينيين يشكل على نحو خاص تحديًا صعب المراس من شأنه أن يمس وترًا حساسًا لدى الرأي العام التركي بصفة عامة وليس فقط ناخبي حزب العدالة والتنمية ومناصري أردوغان.
إن دعم أردوغان لجماعة الإخوان المسلمين في مصر والجماعات الإسلامية في سوريا من القضايا الاستقطابية في السياسة الداخلية التركية، غير أن المسألة الفلسطينية ليست كذلك. إن الأتراك على اختلاف توجهاتهم السياسية – منهم المحافظين والعلمانيين والإسلاميين والقوميين – على قلب رجل واحد عندما يتعلق الأمر بالغضب من الإجراء العسكري الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، ولهذا كان مشهد الجنود الإسرائيليين وهم يقتلون “58” متظاهر فلسطيني – اليوم الأكثر دموية للفلسطينيين منذ اندلاع الحرب في غزة في عام 2014 – أمرًا يصعب تقبله حتى بالنسبة للعلمانيين المتعصبين داخل تركيا والذين يشكون عادة من دعم أردوغان لحركة حماس.
أضف إلى ذلك، يجب ألا ننسى أن تركيا تشهد الآن موسم الحملة الانتخابية بقرار من أردوغان والذي دعا إلى انتخابات مبكرة في “24” من يونيو، ولهذا من الطبيعي أن يستفيد أردوغان من التطورات في قطاع غزة بالدعوة إلى اجتماع عاجل لمنظمة المؤتمر الإسلامي. وفي اليوم نفسه، استدعت أنقرة سفيريها لدى إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. ومسألة أن حمام الدم في غزة حدث في نفس اليوم الذي نقلت فيه إدارة ترامب رسميًا سفارة الولايات المتحدة الأمريكية إلى القدس مع إعلان البيت الأبيض عن دعمه الثابت للإجراءات العسكرية الإسرائيلية، أدت إلى تفاقم الاحتجاجات الشعبية في تركيا. وبالنظر إلى الدعم الشعبي الكبير للقضية الفلسطينية، استغل أردوغان هذا الموقف وكثف من خطابه المعادي لإسرائيل، حيث وصف أردوغان التصرفات الإسرائيلية بأنها “إبادة جماعية”، وإسرائيل نفسها بأنها دولة “إرهاب”، وقال في حديث له” “بغض النظر عن مصدر الإرهاب، سواء من الولايات المتحدة الأمريكية أو إسرائيل، إنها دولة إرهاب، وملعون تلك المعاناة الإنسانية”، وأضاف رئيس الوزراء التركي “بن على يلدرم قائلاً “إن الولايات المتحدة الأمريكية شريك في الجريمة ضد الإنسانية”.
وبالرغم أنه من الواجب بمكان أن يتوخى أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحذر عن استخدام عبارة “إبادة جماعية”، وذلك في ضوء المشاكل التي تتعرض لها الدولة بشأن ادعاءات الجبهة الأرمينية والدول الغربية بأن تركيا نفسها ارتكبت إبادة جماعية في العام 1915، إلا أن المزاج العام في تركيا يتسم بالقومية المتزايدة والامتعاض من الأوربيين والولايات المتحدة الأمريكية. ومن ثم ليس من المستغرب أن يدين أردوغان ومعه أحزاب المعارضة جميعها الخطوة الأمريكية والعنف في غزة وصمت الأمم المتحدة. وفي إطار الوضع الداخلي التركي، أعلنت حكومة حزب العدالة والتنمية الحداد ثلاثة “3” أيام على القتلى في غزة.
إن تلك الديناميات المتفاقمة على الجبهة الإسرائيلية الفلسطينية تجعل أي توقع بعودة العلاقات بين تركيا وإسرائيل إلى مجرد علاقة طبيعية سطحية أمرًا غير واقعيًا. وبخصوص هؤلاء ممن يلقون باللوم على أردوغان ونتنياهو لوجود تلك المشكلات عليهم أن يتذكروا أن ما كان يطلق عليها “السنوات الذهبية” للشراكة الاستراتيجية بين تركيا وإسرائيل كانت في منتصف التسعينات عندما استفاد صانعو القرار في تركيا كثيرًا من عملية أوسلو للسلام. وتأكيدًا لهذا الأمر، نجد أن العسكرية التركية كانت القوة الحقيقة الداعمة لاتفاقية الشراكة العسكرية مع إسرائيل عام 1997. إلا أن معقل العلمانية هذا لم يستطع المضي قدمًا في هذا التحالف الواضح مع إسرائيل في ظل الافتقار إلى بعض الأمل والأوضاع الطبيعية على الجبهة الإسرائيلية الفلسطينية. ومن الأهمية بمكان أيضًا التذكرة بأن أردوغان كانت تربطه علاقة جيدة جدًا مع تل أبيب في الفترة ما بين 2006 و2008، وذلك عندما مارست أنقرة دورًا مفيدًا في أن تكون وسيطًا بين سوريا وإسرائيل، ومن هذا المنطلق، كان الزخم نحو السلام دومًا عاملاً حاسمًا “شرعياً” في إقناع الرأي العام الترحيب بالعلاقات الطيبة مع إسرائيل.
واليوم نجد أن عملية السلام في الشرق الأوسط بعيدة المنال لأسباب تجاوزت أردوغان ونتنياهو، فهناك حماس التي تتولى إدارة قطاع غزة، وإيران وإسرائيل على حافة الحرب في سوريا. ويبدو أن الولايات المتحدة قد تخلت عن دور الوسيط الأمين. كما أن قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران أثار توترات جديدة في المنطقة. إن الديناميات الإقليمية لا تبعث على الاستقرار، ناهيك عن السلام. ولا يمكن لأردوغان أو نتنياهو فعل أي شيء لتغيير تلك التحولات الجذرية في المنطقة.
ربما تكون التحولات الجذرية الداخلية في تركيا وإسرائيل أكثر أهمية. إن الواقع الديموغرافي والسياسي في كلتا الدولتين يتجه نحو المحافظة الدينية والقومية، وبهذا يكون أردوغان ونتنياهو أكثر بزوغًا من القضية الفلسطينية، ولكلٍ منهما القدرة على استغلال واقعهم المحلي الجديد والتنقل خلاله بمهارة لأنه ذلك المكان الذي يمكنهم الاستقرار فيه عند خروجهم من المشهد. ومن ثم فإن إصلاح المشكلات التركية الإسرائيلية سريعًا توقعًا غير واقعي. وما يمكن توقعه هو أن لكلتا الدولتين قطاعات خاصة مفعمة بالحيوية تعمل على استمرار الأنشطة التجارية رغم المناخ السياسي السلبي، ولهذا فإن تجزئة المشكلات من خلال فصل القطاعات التجارية عن الحرب الكلامية بين السياسيين هو الاستراتيجية الأفضل لكلتا الدولتين.
AFP PHOTO/RONEN ZVULUN AND OZAN KOSE